651ـ خطبة الجمعة: رمضان منحة إلهية
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: قَدْ أَظَلَّنَا شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ، الذي مَيَّزَهُ اللهُ تعالى عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، هَذَا الشَّهْرُ العَظِيمُ المُبَارَكُ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، حَيْثُ أَوْدَعَ اللهُ تعالى فِيهِ مِنَ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ مَا لَا يُوصَفُ مِنْ مُضَاعَفَةِ الحَسَنَاتِ، وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَالعِتْقِ مِنَ النَّارِ، وَتَصْفِيدِ الشَّيَاطِينِ، وَفَتْحِ أَبْوَابِ الجِنَانِ، وَإِغْلَاقِ أَبْوَابِ النِّيرَانِ؛ وَجَعَلَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ جَزَاءَ الصَّوْمِ خَاصَّاً بِهِ مِنْ سَائِرِ الأَعْمَالِ، وَأَوْدَعَ فِيهِ لَيْلَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَسْتَشْعِرْ عِظَمَ هَذَا الشَّهْرِ وَمَنْزِلَتَهُ عِنْدَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، فَلْنُولِهِ عِنَايَتَنَا، وَلْنَجْعَلْهُ مَشْرُوعَ عُمُرِنَا الذي نَتَقَرَّبُ بِهِ إلى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، وَفُرْصَةً للحُصُولِ عَلَى أَعْظَمِ الأُجُورِ فِيهِ.
رَمَضَانُ مِنْحَةٌ إِلَهِيَّةٌ:
يَا عِبَادَ اللهِ: شَهْرُ رَمَضَانَ مِنْحَةٌ إِلَهِيَّةٌ، فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَهُ، وَسَنَّ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قِيَامَهُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ، وَسَنَنْتُ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ إِيمَانَاً وَاحْتِسَابَاً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه البزار عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، للهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» رواه النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، فِيهِ خَيْرٌ يُغَشِّيكُمُ اللهُ فِيهِ، فَتَنْزِلُ الرَّحْمَةَ، وَتُحَطُّ الخَطَايَا، وَيُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ، فَيَنْظُرُ اللهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ، وَيُبَاهِي بِكُمْ مَلَائِكَتَهُ، فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرَاً، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مِنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَيِّدُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَأَعْظَمُهَا حُرْمَةً ذُو الحِجَّةِ» رواه البيهقي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ المَلَائِكَةِ؟ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَفْضَلُ النَّبِيِّينَ آدَمُ، وَأَفْضَلُ الأَيَّامِ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وَأَفْضَلُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَأَفْضَلُ اللَّيَالِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَأَفْضَلُ النِّسَاءِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ» رواه الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
يَا عِبَادَ اللهِ: اغْتَنِمُوا هَذَا الشَّهْرَ العَظِيمَ وَالمُبَارَكَ، وَاسْمَعُوا إلى هَذَا النِّدَاءِ بِقُلُوبِكُمُ الصَّافِيَةِ الطَّاهِرَةِ النَّقِيَّةِ: «يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ».
خَاطِبْ نَفْسَكَ بِهَذَا الخِطَابِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: أَقُولُ لِنَفْسِي وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا: خَاطِبْ نَفْسَكَ بِهَذَا الخِطَابِ: لَمَّا سُلْسِلَ الشَّيْطَانُ في شَهْرِ رَمَضَانَ، وَخَمَدَتْ نِيرَانُ الشَّهَوَاتِ بِالصِّيَامِ، انْعَزَلَ سُلْطَانُ الهَوَى، وَصَارَتِ الدَّوْلَةُ لِحَاكِمِ العَقْلِ بِالعَدْلِ؛ فَلَمْ يَبْقَ للعَاصِي عُذْرٌ؛ يا غُيُومَ الغَفْلَةِ عَنِ القُلُوبِ تَقَشَّعِي، يَا شُمُوسَ التَّقْوَى وَالإِيمَانِ اُطْلُعِي، يَا صَحَائِفَ أَعْمَالِ الصَّالِحِيَن ارْتَفِعِي، يَا قُلُوبَ الصَّائِمِينَ اخْشَعِي؛ يَا جبَاهَ المُجْتَهِدِينَ اسْجُدِي لِرَبِّكِ وَارْكَعِي، يَا عُيُونَ المُتَهَجِّدِينَ لَا تَهْجَعِي؛ يَا ذُنُوبَ التَّائِبِينَ لَا تَرْجِعِي، يَا أَرْضَ الهَوَى ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءَ النُّفُوسِ أَقْلِعِي؛ يَا بُرُوقَ الأَشْوَاقِ للعُشَّاقِ الْمَعِي، يَا خَوَاطِرَ العَارِفِينَ ارْتَعِي، يَا هِمَمَ المُحِبِّينَ بِغَيْرِ اللهِ لَا تَقْنَعِي، قَدْ مُدَّتْ في هَذِهِ الأَيَّامِ مَوَائِدُ الإِنْعَامِ للصُّوَّامِ فَمَا مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ دُعِي، وَيَا هِمَمَ المُؤْمِنِينَ أَسْرِعِي، فَطُوبَى لِمَنْ أَجَابَ فَأَصَابَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ طُرِدَ عَنِ البَابِ وَمَا دُعِي.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَدْ أَقْبَلَ لِيَفْتَحَ سِجِلَّاتِهِ بَعْدَ أَنْ طُوِيَتْ سِجِلَّاتُ شَهْرِ شَعْبَانَ، هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي تَنْفَتِحُ لَهُ قُلُوبُ وَصُدُورُ العَارِفِينَ بِاللهِ تعالى، حَيْثُ تَمْتَلِئُ فِيهِ نُفُوسُهُم غِبْطَةً وَأَمَلَاً، هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي تَاقَتْ لَهُ الأَرْوَاحُ، وَهَفَتْ لِشَدْوِ أَذَانِهِ الآذَانُ.
مَنْ مِنَ المُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُ فَضْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدْرَهُ؟
مَنْ مِنَ المُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُ أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ هُوَ سَيِّدُ الشُّهُورِ وَخَيْرُهَا؟
مَنْ مِنَ المُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُ أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؟
مَنْ مِنَ المُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُ أَنَّ مَنْ صَامَ هَذَا الشَّهْرَ حَقَّ الصِّيَامِ، وَقَامَهُ حَقَّ القِيَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟
مَنْ مِنَ المُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُ أَنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفْتَحُ فِيهِ، وَأَبْوَابَ الجِنَانِ، وَتُغَلَّقُ فِيهِ أَبْوَابُ الجَحِيمِ، وَتُصَفَّدُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ؟
مَنْ مِنَ المُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُ بِأَنَّ دُعَاءَ الصَّائِمِ مُستَجَابٌ؟
هَلُمُّوا للصُّلْحِ مَعَ اللهِ تعالى شَبَابَاً وَشِيبَاً، رِجَالَاً وَنِسَاءً، حُكَّامَاً وَمَحْكُومِينَ.
اللَّهُمَّ بَلِّغْنَا شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 27/ شعبان /1440هـ، الموافق: 3/ أيار / 2019م
اضافة تعليق |
أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد
لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد
لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد
لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ ... المزيد