162ـ بعثته   

162ـ بعثته   

162ـ بعثته صلى الله عليه وسلم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

بِعْثَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَبَدْءُ نُبُوَّتِهِ:

إِنَّ اللهَ تعالى بَعَثَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَسُولَاً للعَالَمِينَ، عَلَى تَمَامِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ الشَّرِيفَ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: « بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكُثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَعَلَى ذَلِكَ الجُمْهُورُ.

وَقَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالعِلْمِ بِالأَثَرِ.

وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: هُوَ الصَّوَابُ. اهـ.

وَتَمَامُ الأَرْبَعِينَ إِنَّمَا هُوَ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ ويوم بعُثت فِيهِ».

وَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: كَانَ ذَلِكَ في شَهْرِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَدْءَ نُزُولِ القُرْآنِ كَانَ في شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ . . .﴾ الآيَةَ. وَكَانَ ذَلِكَ في لَيْلَةِ القَدْرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾. فَيَكُونُ بَدْءُ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَمَامِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ.

وَقَدْ جَمَعَ المُحَقِّقُونَ بَيْنَ القَوْلَيْنِ ـ كَمَا ذَكَرَهُ الزَّرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ ـ بِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نُبِّئَ بِالرُّؤْيَا ـ أَيْ: بَدَأَ الوَحْيُ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَرِيقِ الرُّؤْيَا ـ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ عَلَى تَمَامِ أَرْبَعِينِ سَنَةً، ثُمَّ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ في رَمَضَانَ.

قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: وَحَمَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ ـ حَدِيثَ ـ «الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءَاً مِنَ النُّبُوَّةِ» لِأَنَّ مُدَّةَ الوَحْيِ كَانَتْ ثَلَاثَاً وَعِشْرِينَ سَنَةً، فِيهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ. اهـ.

وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ ـ وَاللَّفْظُ للبُخَارِيِّ ـ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ (قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ: هِيَ التي لَا كَذِبَ فِيهَا، أَو لَا تَحْتَاجُ لِتَعْبِيرٍ، أَوْ هِيَ مَا يَقَعُ بِعَيْنِهِ ـ أَيْ: كَمَا رُئِيَتْ ـ أَوْ مَا يُعَبَّرُ في المَنَامِ. اهـ.

وَأَمَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ: فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الصَّادِقَةِ، وَهِيَ مَا تَأْتِي بِالبُشْرَى ـ كَمَا في شَرْحِ القَسْطَلَانِيِّ عَلَى البُخَارِيِّ) فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.

ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ (أَيْ: ثُمَّ إِنَّ اللهَ تعالى حَبَّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءَ ـ أَيْ: الخَلْوَةَ ـ قَالَ الخَطَّابِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الخَلْوَةَ فَرَاغُ القَلْبِ، وَهِيَ مُعِينَةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ، وَبِهَا يَنْقَطِعُ الإِنْسَانُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ البَشَرِ، وَيَجْتَمِعُ قَلْبُهُ، وَيَجْمَعُ هَمَّهُ. اهـ.

وَفِي قَوْلِهَا: ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُبَّهُ للخَلْوَةِ إِنَّمَا هُوَ بِتَحْبِيبٍ مِنَ اللهِ تعالى، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَنْ أَمْرٍ نَفْسَانِيٍّ، بَلْ عَنْ وَحْيٍ إِلْهَامِيٍّ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ في الفَتْحِ).

وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ ـ (التَّحَنُّثُ: هُوَ البُعْدُ عَنِ الحَنْثِ، وَهُوَ الإِثْمُ الذي كَانَ عَلَيْهِ المُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ بِالتَّعَبُّدِ، لِأَنَّ التَّعَبُّدَ سَبَبٌ لِإِزَالَةِ الإِثْمِ).

اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ (هَذَا العَدَدُ المُبْهَمُ وَضَّحَتْهُ رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرَاً» وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: عَيَّنَتْ ذَلِكَ الشَّهْرَ الذي كَانَ يَخْلُو فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَنَّهُ شَهْرُ رَمَضَانَ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ إلى حِرَاءٍ في كُلِّ عَامٍ شَهْرَاً، وَذَلِكَ الشَّهْرُ هُوَ رَمَضَانُ).

قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إلى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا (قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَزَوَّدُ لِبَعْضِ لَيَالِي الشَّهْرِ، فَإِذَا نَفَدَ الزَّادُ رَجَعَ إلى أَهْلِهِ، فَيَتَزَوَّدُ قَدْرَ ذَلِكَ.

قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ الانْقِطَاعَ الدَّائِمَ عَنِ الأَهْلِ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْقَطِعْ بِالغَارِ بِالكُلِّيَّةِ، بَلْ كَانَ يَرْجِعُ إلى أَهْلِهِ، لِضَرُورَاتِهِمْ، ثُمَّ يَرْجِعُ لِتَحَنُّثِهِ).

حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ (أَيْ: الأَمْرُ الحَقُّ، وَهُوَ الوَحْيُ، وَسُمِّيَ حَقَّاً: لِمَجِيئِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ (فَقَالَ لَهُ المَلَكُ وَهُوَ جِبْرِيلُ اتِّفَاقَاً: اقْرَأْ.

قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: هَذَا الأَمْرُ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ وَالتَّيَقُّظِ لِمَا سَيُلْقِي عَلَيْهِ ـ أَيْ: لِيَتَوَجَّهَ إلى مَا سَيُلْقِي عَلَيْهِ ثُمَّ يَقْرَأَ ـ أَوْ عَلَى بَابِهِ مِنَ الطَّلَبِ ـ أَيْ: طَلَبَ مِنْهُ القِرَاءَةَ ـ قَالَ: فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ في الحَالِ، وَإِنْ قَدِرَ عَلَيْهِ بَعْدُ. اهـ).

قَالَ: «فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ» (جَاءَ في رِوَايَةٍ: «قُلْتُ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: «مَا» فِيهِ ـ أَيْ: في قَوْلِهِ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» ـ نَافِيَةٌ، إِذْ لَوْ كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً لَمْ يَصْلُحْ دُخُولُهَا عَلَى البَاءِ، وَإِنْ حُكِيَ عَنِ الأَخْفَشِ جَوَازُهُ، فَهُوَ شَاذٌّ، وَالبَاءُ ـ فِي: بِقَارِئٍ ـ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: مَا أُحْسِنُ القِرَاءَةَ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَاً قِيلَ لَهُ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ـ أَيْ: لَا تَقْرَؤُهُ بِقُوَّتِكَ وَلَا بِمَعْرِفَتِكَ، لَكِنْ بِحَوْلِ رَبِّكَ وَإِعَانَتِهِ، فَهُوَ يُعَلِّمُكَ كَمَا خَلَقَكَ وَكَمَا نَزَعَ عَنْكَ عَلَقَ الدَّمِ، وَمَضْمَرَ الشَّيْطَانِ في الصِّغَرِ، وَعَلَّمَ أُمَّتَكَ حَتَّى صَارَتْ تَكْتُبُ بِالقَلَمِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أُمِّيَّةً ـ ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ. اهـ.

قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: وَقِيلَ: «مَا» اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَضَعَّفَهُ عِيَاضٌ وَابْنُ قَرْقُولٍ بِدُخُولِ البَاءِ في خَبَرِهَا، وَهِيَ لَا تَدْخُلُ عَلَى مَا الاسْتِفْهَامِيَّةِ.

قَالَ: وَأُجِيبَ بِأَنَّ رِوَايَةَ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ: «كَيْفَ أَقْرَأُ؟» وَابْنِ إِسْحَاقَ: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: «مَاذَا أَقْرَأُ؟» دَلَّتَا عَلَى أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَقَدْ جَوَّزَ الأَخْفَشُ دُخُولَ البَاءِ عَلَى الَخَبِر المُثْبَتِ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ مَالِكٍ في ـ قَوْلِكَ: ـ بِحَسْبِكَ زَيْدٌ، فَجَعَلَ الخَبَرَ حَسْبَكَ، وَالبَاءَ زَائِدَةٌ. اهـ).

قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي ـ وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: فَضَمَّنِي ـ (وَمَعْنَى غَطَّنِي: ضَمَّنِي.

وَهَذِهِ الضَّمَّاتُ فِيهَا إِفَاضَاتُ وَإِفْرَاغَاتُ أَسْرَارٍ وَأَنْوَارٍ إِلَهِيَّةٍ، وَعُلُومٍ وَمَعَارِفَ رَبَّانِيَّةٍ، نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ النَّفْسَ وَالقَلْبَ وَالرُّوحَ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى صَدْرِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ» وَبِذَلِكَ فُتِحَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُفِيضَ عَلَيْهِ).

حَتَّى بَلَغَ مِنِّيَ الجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي.

فَقَالَ: اقْرَأْ.

قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي.

فَقَالَ: اقْرَأْ.

قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي.

فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾».

فَرَجَعَ بِهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَْيلِدٍ، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي».

فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ ـ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ ـ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي» (أَيْ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ جِسْمِي ثِقَلَ الوَحْيِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ للوَحْيِ ثِقَلَاً لَا تَقْدِرُ لَهُ الأَقْوِيَاءُ، إِلَّا مَنْ أَمَدَّهُ اللهُ بِمَدَدِ النُّبُوَّةِ وَقُوَّتِهَا، وَخُصُوصَاً الوَحْيَ المُحَمَّدِيَّ، فَإِنَّهُ مْنِ أَعْلَى المَرَاتِبِ ـ قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلَاً ثَقِيلَاً﴾. وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا مِنْ ثِقَلِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ يَوْمَاً وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، فَقَعَدَتْ بِهِ النَّاقَةُ).

فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدَاً، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ (أَيْ: الضَّعِيفَ الذي لَا يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ) وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ (أَيْ: تُعِينُ عَلَى دَفْعِ الحَوَادِثِ وَالكَوَارِثِ الجَارِيَةِ عَلَى الخَلْقِ، بِتَقْدِيرِ الحَقِّ، وَقِيلَ: النَّوَائِبُ جَمْعُ نَائِبَةٍ، وَهِيَ الحَادِثَةُ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إلى الحَقِّ، لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ في الخَيْرِ وَقَدْ تَكُونُ في الشَّرِّ. اهـ. مِرْقَاة).

فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ، ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعَرَبِيَّةِ (قَالَ الحَافِظُ: وَالجَمِيعُ صَحِيحٌ، لِأَنَّ وَرَقَةَ تَعَلَّمَ اللِّسَانَ العِبْرَانِيَّ، وَالكِتَابَةَ العِبْرَانِيَّةَ، فَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، كَمَا كَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ، لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الكِتَابَيْنِ وَاللِّسَانَيْنِ. اهـ).

وَكَانَ شَيْخَاً كَبِيرَاً قَدْ عَمِيَ.

فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ.

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟

فَأَخْبَرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى.

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى (النَّامُوسُ: صَاحِبُ السِّرِّ، وَالمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ صَاحِبُ سِرِّ وَحْيِ اللهِ تعالى إلى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَيُسَمَّى النَّامُوسَ الأَكْبَرَ).

يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعَاً، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيَّاً إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟».

فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرَاً مُؤَزَّرَاً.

ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ـ أَيْ: لَمْ يَلْبَثْ ـ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ.

وَفَتَرَ الوَحْيُ ـ أَيْ: انْقَطَعَ الوَحْيُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ، مُقَدَّرَةً بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 23/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 20/ كانون الأول / 2019م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  من كتاب سيدنا محمد رسول الله   

20-03-2021 2708 مشاهدة
203ـ تمسح الملائكة بالقبر الشريف

رَوَى الدَّارَمِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ كَعْبَاً ـ أَيْ: كَعْبَ الأَحْبَارِ ـ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ كَعْبٌ: مَا مِنْ يَوْمٍ يَطْلُعُ ... المزيد

 20-03-2021
 
 2708
12-03-2021 1515 مشاهدة
202ـ إفاضة القبر الشريف بالأسرار والأنوار

بَابُ مَا أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ. ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادٍ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ أَوْسِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قُحِطَ أَهْلُ المَدِينَةِ قَحْطَاً شَدِيدَاً، ... المزيد

 12-03-2021
 
 1515
19-02-2021 1021 مشاهدة
201ـ بكاء الصحابة لتذكرهم عهوده صلى الله عليه وسلم

عَادَ خَبَّابَاً نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَبْشِرْ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، تَرِدُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحَوْضَ! ... المزيد

 19-02-2021
 
 1021
20-11-2020 4229 مشاهدة
200ـ بكاء الصحابة عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم (2)

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ... المزيد

 20-11-2020
 
 4229
13-11-2020 1955 مشاهدة
199ـ بكاء الصحابة عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم

رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللهُ ... المزيد

 13-11-2020
 
 1955
06-11-2020 1008 مشاهدة
198ـ محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم (5)

بُكَاءُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لِأَلَمِ فِرَاقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبُكَاؤُهُمْ لِتَذَكُّرِ مَجَالِسِهِ، وَبُكَاؤُهُمْ عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ... المزيد

 06-11-2020
 
 1008

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414417226
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :