20ـ الشيخ محمد نجيب خياطة رَحِمَهُ اللهُ تعالى

20ـ الشيخ محمد نجيب خياطة رَحِمَهُ اللهُ تعالى

20ـ الشيخ محمد نجيب خياطة رَحِمَهُ اللهُ تعالى

1321/1387هـ 1905/1967م

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّد نَجِيب بْنُ مُحَمَّد بْنِ مُحَمَّد بْنِ عُمَر خَيَّاطَة الشَّهِيرُ بِآلا، وُلِدَ في حَيِّ الجَلُّومِ بِمَدِينَةِ حَلَبَ في شَهْرِ رَمَضَانَ عَامَ 1321هـ الموافق 1905م؛ لَمْ يَكُنْ وَالِدُهُ عَالِمَاً، لَكِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ العُلَمَاءَ، وَيَـحْضَرُ دُرُوسَهُمْ وَمَجَالِسَهُمْ، فَوَرِثَ الابْنُ مِنْ أَبِيهِ هَذِهِ المَحَبَّةَ.

الْتَحَقَ الشَّيْخُ مُحَمَّد نَجِيب بِالمَدْرَسَةِ الخُسْرَوِيَّةِ بِحَلَبَ، وَأَخَذَ العُلُومَ المُتَنَوِّعَةَ عَنْ أَسَاتِذَةٍ وَشُيُوخٍ كِبَارٍ عُظَمَاءَ ثِقَاةٍ صَالِحِينَ في مَدِينَةِ حَلَبَ وَفِي غَيْرِهَا رَحِمَهُمُ اللهُ تعالى جَمِيعَاً، مِنْهُمُ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ السَّلْقِينِيُّ الجَدُّ شَيْخُ المَدْرَسَةِ الخُسْرَوِيَّةِ وَقْتَئِذٍ، وَالشَّيْخُ أَحْمَد المَكْتَبِي الكَبِيرُ شَيْخُ المَدْرَسَةِ الدليواتية وَقْتَئِذٍ، وَالشَّيْخُ الفَقِيهُ الحَنَفِيُّ المُحَقِّقُ أَحْمَد الزَّرْقَا شَيْخُ المَدْرَسَةِ الشَّعْبَانِيَّةِ وَقْتَئِذٍ، وَالشَّيْخُ سَعِيد الإِدْلِبِيُّ، وَالشَّيْخُ أَحْمَد الشَّمَّاع، وَالشَّيْخُ أَحْمَد الكُرْدِيُّ أَمِينُ الفَتْوَى بِحَلَبَ، وَالشَّيْخُ الجَلِيلُ نَجِيب سِرَاجُ الدِّينِ، وَالشَّيْخُ أَسْعَد العَبَجِي مُفْتِي الشَّافِعِيَّةِ بِحَلَبَ وَقْتَئِذٍ، كَمَا أَخَذَ عِلْمَ الفَرَائِضِ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الفَرَضِيِّينَ، كَالشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ المُعْطِي فَرِيدِ عَصْرِهِ في هَذَا العِلْمِ.

اتَّجَهَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى إلى التَّخَصُصِ في عِلْمِ القِرَاءَاتِ، الذي اشْتُهِرَ بِهِ لَاحِقَاً في بِلَادِ الشَّامِ، حَتَّى غَدَا فِيهِ فَرِيدَ عَصْرِهِ، ضَابِطَاً لَهُ، مُحَقِّقَاً لِمَسَائِلِهِ، فَأَخَذَ عِلْمَ القِرَاءَاتِ العَشْرِ مِنْ طَرِيقِ الشَّاطِبِيَّةِ وَالدُّرَّةِ عَنْ شَيْخِهِ الأُسْتَاذِ المُحَقِّقِ الشَّيْخِ أَحْمَد حَامِد المَصْرِيِّ الأَبُوتِيجِي الرِّيدِي، المَدَنِيِّ مَوْلِدَاً، وَالمَكِّيِّ إِقَامَةً وَوَفَاةً، وَأَجَازَهُ بِذَلِكَ.

ثُمَّ رَحَلَ إلى دِمَشْقَ، وَمِنْهَا إلى عِرْبِينَ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ عام 1356هـ.

يَقُولُ وَلَدُهُ البَارُّ سَيِّدِي الشَّيْخُ مُحَمَّد مَسْعود: ذَكَرَ لَنَا عَمِّي الدكتور الشَّيْخُ عُمَر رَحِمَهُ اللهُ تعالى أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِأَخِي عِنْدَ سَفَرِهِ إلى عِرْبِينَ: يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَنْتَبِهَ جَيِّدَاً لِمَوْضُوعِ طَعَامِكَ، فَإِنَّ قِلَّةَ الطَّعَامِ تُضْعِفُ ذَاكِرَةَ الحِفْظِ ـ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّيْخَ لَا يَهْتَمُّ بالطَّعَامِ كَثِيرَاً ـ فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ عِرْبِينَ، قَالَ لِي: جَزَاكَ اللهُ خَيْرَاً عَلَى نَصِيحَتِكَ، فَقَدْ عَانَيْتُ مِنَ الحِفْظِ وَالفَهْمِ، إِذْ لَمْ آكُلْ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَتَذَكَّرْتُ وَصِيَّتَكَ، فَأَكَلْتُ قَلِيلَاً، وَرَقَدْتُ سُوَيْعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَبَدَأْتُ أَفْهَمُ. اهـ.

وفي عِربِينَ أَخَذَ القِرَاءَاتِ العَشْرَ مِنْ طَرِيقِ طَيْبَةَ النَّشْرِ عَنْ طَرِيقِ الشَّيْخِ الأُسْتَاذِ العَلَّامَةِ عَبْدِ القَادِر قُويدر صَمَدِيَّة، وَأَجَازَهُ بِهَا، وَقَدْ صَادَقَ عَلَى هَذِهِ الإِجَازَةِ شَيْخُ مَشَايِخِ القُرَّاءِ وَالإِقْرَاءِ في وَقْتِهِ بِدِمَشْقَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ المُنَجِّد، وَهُوَ أُسْتَاذُ الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ قُويدر، وَمِنَ الجَدِيرِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ كَانَ مُدِيرَ مَدْرَسَةِ الحُفَّاظِ في حَلَبَ، وَخِلَالَ العُطْلَةِ الصَّيْفِيَّةِ التي كَانَتْ مُدَّتُهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ أَتَمَّ حِفْظَ طَيْبَةَ النَّشْرِ، مَعَ أَنَّ مُدَّةَ حِفْظِهَا الطَّبِيعِيَّةَ ثَلَاثُ سِنِينَ.

وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ تَلَامِذَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّد نَجِيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى في القِرَاءَاتِ العَشْرِ الشَّيْخُ الصَّالِحُ كُلَال طَحَّان رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

اهتَمَّ الشَّيْخُ مُحَمَّد نَجِيبُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في دِرَاسَةِ عِلْمِ المَوَارِيثِ حَتَّى بَرَعَ فِيهِ، وَأَصْبَحَ مَرْجِعَاً مُعْتَمَدَاً يُرْجَعُ فِيهِ إِلَيْهِ في حَلِّ مَا أَشْكَلَ في مَسَائِلِهِ وَقَضَايَاهُ الشَّائِكَةِ، كَمَا أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ في عِلْمِ التَّجْوِيدِ لِإِجَادَتِهِ لَهُ وَإِتْقَانِهِ إِيَّاهُ وَمَعْرِفَتِهِ بِخَفَايَاهُ الدَّقِيقَةِ وَأَحْكَامِهِ العَوِيصَةِ، إِضَافَةً إلى ذَلِكَ كَانَتْ لَهُ مُشَارَكَةٌ في عِلْمِ الفِقْهِ وَاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَآدَابِهَا وَالتَّصَوُّفِ الحَقِّ.

حَصَلَ الشَّيْخُ مُحَمَّد نَجِيب عَلَى إِجَازَاتٍ عِلْمِيَّةٍ عَدِيدَةٍ مِنْ مَشَاهِيرِ العُلَمَاءِ وَالمَشَايِخِ في سُورِيَّةَ وَخَارِجِهَا، فَقَدْ أَجَازَهُ الشَّيْخُ رَاغِب الطَّبَّاخُ في كِتَابِهِ مُخْتَصَرِ الأَثْبَاتِ الجَلِيَّةِ، وَأُجِيزَ بَالحَدِيثِ المُسَلْسَلِ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في فَضْلِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ الشَّيْخِ عِيسَى البيَانُونِيِّ، كَمَا أُجِيزَ مِنَ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ مُحَمَّد زَيْنِ العَابِدِينَ إِجَازَةً عَامَّةً، كَمَا أُجِيزَ مِنَ الشَّيْخِ عَلَوِي المَالِكِيِّ بِرِوَايَةِ كُتُبِ الصِّحَاحِ السِّتَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الحَدِيثِ.

تَفَرَّغَ الشَّيْخُ مُحَمَّد نَجِيب لِتَعْلِيمِ العُلُومِ العَرَبِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ إلى جَانِبِ تَعْلِيمِ القُرْآنِ وَالتَّجْوِيدِ وَالقِرَاءَاتِ وَالفَرَائِضِ في المَدْرَسَةِ الشَّعْبَانِيَّةِ وَالثَّانَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا تَوَلَّى في وَقْتٍ مُبَكِّرٍ إِدَارَةَ مَدْرَسَةِ الحُفَّاظِ بِمَدِينَةِ حَلَبَ عَام 1341هـ التي تَخَصَّصَتْ في تَخْرِيجِ القُرَّاءِ وَالحُفَّاظِ في حَلَبَ وَأَرْيَافِهَا وَغَيْرِهَا مِنَ المُدُنِ السُّورِيَّةِ، كَمَا تَوَلَّى إِمَامَةَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ في الثَّانَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. اهـ.

مِنْ أَبْرَزِ صِفَاتِ الشَّيْخِ مُحَمَّد نَجِيب وَأَخْلَاقِهِ أَنَّهُ كَانَ دَائِمَ البِشْرِ، مُتَقَرِّبَاً مِنَ الفُقَرَاءِ، مُحِسَنَاً إِلَيْهِمْ، مُجِيبَاً لِدَعَوَاتِهِمْ، بَعِيدَاً عَنْ طَلَبِ الشُّهْرَةِ، سَمْحَاً لَا يَغْضَبُ إِلَّا للهِ تعالى، وَإِذَا غَضِبَ لِنَفْسِهِ مِنْ أَحَدٍ صَفَحَ عَنْهُ بَعْدَ قَلِيلٍ، وَيُحَاوِلُ الاعْتِذَارَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ الحَقُّ بِجَانِبِهِ، مُحِبَّاً لِطَلَبِ العِلْمِ وَمُسَاعِدَاً لِطُلَّابِهِ، لَا يَرُدُّ إِنْسَانَاً جَاءَهُ يَطْلُبُ مِنْهُ عِلْمَاً، وَكَانَ مُكَرِمَاً لِطُلَّابِهِ، يَقْضِي سَاعَاتِ فَرَاغِهِ في تَعْلِيمِهِمْ، مُضَحِّيَاً في ذَلِكَ بِرَاحَتِهِ، يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ الذي أَكْرَمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَجْتَنِبُ الابْتِدَاعَ في دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَكَانَ مُشْتَغِلَاً بِتِلَاوةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، يُقَالُ بِأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ ثَلَاثُ خَتَمَاتٍ للقُرْآنِ الكَرِيمِ مُتَقَارِبَةُ الأَزْمَانِ، الأُولَى في صَلَاةِ الفَرْضِ السِّرِّيَّةِ، وَالثَّانِيَةُ في صَلَاةِ الفَرْضِ الجَهْرِيَّةِ، وَالثَّالِثَةُ في أَثْنَاءِ خُرُوجِهِ مِنَ البَيْتِ حَتَّى رُجُوعِهِ إِلَيْهِ.

وَكَانَ يَشُعُّ النُّورُ مِنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا ابْتَسَمَ فَكَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةٌ مِنْ قَمَرٍ، وَكَانُ يُسَابِقُ مَنْ رَآهُ مِنْ بَعِيدٍ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، تَحْصِيلَاً لِلأَجْرِ وَالمَثُوبَةِ، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ مَنْ يَعْرِفُهُ سَأَلَهُ عَنْ صِحَّتِهِ أَو عَنْ وَالِدِهِ أَو عَنْ وَالِدَتِهِ، حَسْبَ دَرَجَةِ القَرَابَةِ أَو المَعْرِفَةِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: مَعَ السَّلَامَةِ، لَا تواخذني أَنَا بَمْشِي عَلَى مَهَلٍ، وَيَعُودُ لِقِرَاءَتِهِ.

وَكَانَ تَقِيَّاً نَقِيَّاً صَالِحَاً وَرِعَاً، يَقُولُ عَنْهُ وَلَدُهُ الشَّيْخُ مُحَمَّد مَسْعُود حَفِظَهُ اللهُ تعالى: اسْتَيْقَظْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَزِعِينَ عَلَى صَوْتِ وُقُوعِهِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، فَوَجْدْنَاهُ أَمَامَ المَغْسَلَةِ يُرِيدُ الوُضُوءَ، فَقُلْنَا لَهُ: سَامَحَكَ اللهُ، هَلَّا أَيْقَظْتَ أَحَدَنَا لِمُسَاعَدَتِكَ؟ وَقَالَ لَهُ أَخِي الأُسْتَاذُ صَلَاح رَحِمَهُ اللهُ تعالى، مِنْ أَلَمِهِ عَلَيْهِ: لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْكَ قِيَامُ اللَّيْلِ يَا وَالِدِي وَأَنْتَ في هِذِهِ الحَالِ مِنَ المَرَضِ ـ وَكُنَّا مَسَاءً حَمَلْنَاهُ حَمْلَاً إلى فِرَاشِهِ ـ فَنَظَرَ إِلَيْهِ نَظْرَةَ عَتَبٍ شَدِيدَةً قَائِلَاً: أَنَا لَا أَذْكُرُ أَنِّي تَرَكْتُ قِيَامَ اللَّيْلِ مُذْ بَلَغْتُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، أَفَأَتْرُكُهُ في آخِرِ عُمُرِي؟!

وَيَقُولُ عَنْهُ كَذَلِكَ، أَنَّ أَهَالِي حَلَبَ أَصَابَهُمْ جَدْبٌ وَقِلَّةُ أَمْطَارٍ، فَخَرَجُوا إلى الاسْتِسْقَاءِ، فَطَلَبُوا الشَّيْخَ مُحَمَّد نَجِيب فَلَمْ يَجِدُوهُ بَيْنَهُمْ، فَذَهَبُوا إِلَيْهِ وَأَعْلَمُوهُ بِالاسْتِسْقَاءِ، فَقَالَ: أَمِثْلِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ؟ وَاللهِ أَنَا أَضْعَفُكُمْ، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيْنَ المِظَلَّاتُ؟ تَذْهَبُونَ إلى الاسْتِسْقَاءِ وَلَا تُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ.

وَيَقُولُ عَنْهُ كَذَلِكَ: كَانَ سَيِّدِي الوَالِدُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يَسْتَقْبِلُ ضُيُوفَهُ في اليَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ العِيدَيْنِ، وَكَانَ مَنْزِلُنَا في سَبِيلِ حَسْبِي، وَكَانَتْ إِمَامَةُ الوَالِدِ في الخُسْرَوِيَّةِ؛ وَكَانُوا قَدِيمَاً حِرْصَاً مِنْهُمْ عَلَى صِلَةِ الأَرْحَامِ يَكْتُبُونَ أَسْمَاءَ مَنْ يَرْغَبُونَ زِيَارَتَهُ في كُلِّ حَيٍّ، وَصَادَفَ وُصُولُ أَحَدِ العُلَمَاءِ قُبَيْلَ الظُّهْرِ، فَاعْتَذَرَ وَالِدِي مِنْهُ مِنْ أَجْلِ الذَّهَابِ إلى الصَّلَاةِ.

وَفِي إِحْدَى المَرَّاتِ وَصَلَ أَحَدُ العُلَمَاءِ مُتَأَخِّرَاً قَلِيلَاً، وَوَالِدِي نَازِلٌ عَلَى الدَّرَجِ لِيَذْهَبَ إلى صَلَاةِ الظُّهْرِ.

فَبَدَأَ وَالِدِي بِالسَّلَامِ عَلَى الشَّيْخِ، وَتَبَادَلَ مَعَهُ تَبْرِيكَاتِ العِيدِ، وَبَعْدَهَا قَالَ لَهُ: أَنَا ذَاهِبٌ إلى صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَتَفَضَّلْ أَوْلَادِي مَوْجُودُونَ حَتَّى أَعُودَ.

فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: أَنَا جِئْتُ لِزِيَارَتِكَ.

فَأَجَابَ وَالِدِي: تَعْلَمُ أَنَّنِي إِمَامٌ رَاتِبٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ أَتَأَخَّرَ، تَفَضَّلْ صَلِّ مَعِيَ وَنَعُودُ.

فَقَالَ الشَّيْخُ: وَكِّلْ في هَذَا اليَوْمِ.

فَأَجَابَ وَالِدِي: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُوَكِّلَ وَأَنَا بِكَامِلِ صِحَّتِي.

وَيَقُولُ عَنْهُ وَلَدُهُ كَذَلِكَ، أَنَّهُ قَدْ يَزُورُهُ أَحَدُ أَحْبَابِهِ، فَيَقُولُ لَهُ الشَّيْخُ: افْتَحِ القُرْآنَ يَا وَلَدِي وَاسْمَعْ لِي لَوْ سَمَحْتَ؛ فَكَانَ يَقْرَأُ جُزْءَاً أَو أَكْثَرَ، وَكَانَ لَا يَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ العِلْمِ النَّافِعِ في كُلِّ أَوْقَاتِ فَرَاغِهِ، فَفِي زِيَارَاتِ الأَرْحَامِ بِالأَعْيَادِ بَعْدَ أَنْ يُبَارِكَ لَهُمْ بِالعِبَارَاتِ المَأْلُوفَةِ يَقُولُ: قَالَ اللهُ تعالى، فَيُورِدُ آيَةً يَشْرَحُهَا أَو حَدِيثَاً شَرِيفَاً يُبَيِّنُ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ، ثُمَّ يَقُومُ وَيُوَدِّعُ.

حَتَّى عَلَى مَائِدَةِ الطَّعَامِ كُنَّا نَتَذَاكَرُ بِمَا يُسَمُّونَهُ مُذَاكَرَةَ الأَنْفَاسِ في الشِّعْرِ، وَهِيَ كَمَا تَعْلَمُونَ يَأْتِي بِبَيْتِ شِعْرٍ وَعَلَى الذي بِجَانِبِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِبَيْتٍ أَوَّلُهُ هُوَ آخِرُ البَيْتِ الذي ذَكَرَهُ؛ وَتَدُورُ المُذَاكَرَةُ الشِّعْرِيَّةُ، وَمِنْ خِلَالِهَا يَمُرُّ حُكْمٌ فِقْهِيٌّ يَسْأَلُنَا عَنْهُ، أَو إِعْرَابُ كَلِمَةٍ صَعْبَةٍ يَسْأَلُنَا عَنْهَا، وَهَكَذَا فَكَانَ لَا يَخْلُو وَقْتُهُ مِنْ فَائِدَةٍ عِلْمِيَّةٍ أَو فِقْهِيَّةٍ أَو لُغَوِيَّةٍ.

وَكَانَ رَحِمَهُ اللهُ لَا يَسْهَرُ بِاللَّيْلِ، وَيُدَرِّبُ أَوْلَادَهُ عَلَى النَّوْمِ البَاكِرِ، وَيُصِرُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَيَقُولُ عَنْهُ كَذَلِكَ: كُنَّا نُلِحُّ عَلَيْهِ لِتَسْجِيلِ خَتْمَةٍ كَامِلَةٍ عَلَى القِرَاءَاتِ العَشْرِ، فَيَعْتَذِرُ بَعْدَ إِلْحَاحٍ شَدِيدٍ مِنَّا، فَقُلْنَا لَهُ: هَذَا عِلْمٌ وَيَجِبُ أَنْ لَا تَكْتُمَهُ.

فَقَالَ: أَنَا نَشَرْتُهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيَّ، وَلَمْ أَكْتُمْهُ، وَلَا أُسَجِّلُ شَيْئَاً أَبَدَاً؛ فَبَعْدَ وَفَاتِي يِأْخُذُونَهُ وَيُذِيعُونَهُ في الإِذَاعَةِ، وَيَقُولُونَ: هَذَا فُلَانٌ، فَأَنَا لَا أُرِيدُ ذَلِكَ، وَلَمْ أَتَعَلَّمْهُ لِشُهْرَةٍ وَسُمْعَةٍ.

تَلَقَّى العِلْمَ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ؛ مِنْهُمْ مَشَاهِيرُ عُلَمَاءِ حَلَبَ وَغَيْرِهَا، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الفُضَلَاءِ: الشَّيْخُ عَبْدُ الفَتَّاح أَبُو غُدَّة، وَالشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ، وَالشَّيْخُ الدكتور إِبْرَاهِيم السَّلْقِينِي، وَالدكتور المُحَدِّثُ الشَّيْخُ مَحْمُود الِميرَة، وَالدكتور المُحَدِّثُ الشَّيْخُ مَحْمُود الطَّحَّان، وَالفَقِيهُ المَوْسُوعِيُّ الدكتور مُحَمَّد رَوَّاس قَلْعَجِي، وَالأُسْتَاذُ المُحَدِّثُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَوَّامَة، وَغَيْرُهُمْ كَثِيرٌ.

كَانَ الشَّيْخُ مُحَمَّد نَجِيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَالِيَ الهِمَّةِ، دَؤُوبَاً عَلَى المُطَالَعَةِ وَالتَّعْلِيقَاتِ العِلْمِيَّةِ عَلَى مَا يَقَعُ تَحْتَ يَدِهِ، كَانَتْ لَهُ مُؤَلَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا هُوَ مَطْبُوعٌ وَمِنْهَا مَا زَالَ مَخْطُوطَاً، وَأَكْثَرُ تَأْلِيفَاتِهِ انْتِشَارَاً كَتَابُهُ كِفَايَةُ المُرِيدِ مِنْ عِلْمِ التَّجْوِيدِ وَكِتَابُهُ الدُّرَرُ الحِسَانُ في تَجْوِيدِ القُرْآنِ.

بَعْدَ حَيَاةٍ حَافِلَةٍ مَلِيئَةٍ بِتَدْرِيسِ العُلُومِ العَرَبِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالمَوَارِيثِ وَالقُرْآنِ مِنْ تَجْوِيدٍ وَقِرَاءَاتٍ، تُوُفِّيَ الشَّيْخُ مُحَمَّد نَجِيب في يَوْمِ السَّبْتِ الخَامِسِ مِنْ جُمَادَى الثَّانِيَةِ سَنَةَ 1387هـ المُوَافِقِ لليَوِمِ التَّاسِعِ مِنْ أَيْلُولَ سَنَةَ 1967م وَنُقِلَ عَمَّنْ حَضَرَ جِنَازَتَهُ أَنَّ رَائِحَةً مِنَ المِسْكِ فَاحَتْ مِنَ الغُرْفَةِ التي هُوَ فِيهَا، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ جَسَدِهِ ظَهَرَ أَنَّ الرَّائِحَةَ تَفُوحُ مِنْ فَمِهِ الذي كَانَ يَتْلُو بِهِ كِتَابَ اللهِ تعالى آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.

يَقُولُ وَلَدُهُ الشَّيْخُ مُحَمَّد مَسْعُود حَفِظَهُ اللهُ تعالى: وَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِلَحْظَةٍ: اللهُ اللهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

وَمِمَّا يُذْكَرُ أَنَّ أَخِي الشَّيْخَ مُحَمَّد أَبُو اليُمْنِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى وَالِدَ الشَّيْخِ نَادِر كَانَ في اليَوْمِ الثَّالِثِ جَالِسَاً أَمَامَ القَبْرِ وَالنَّاسُ بَعْدَ الانْتِهَاءِ مِنْ خَتْمِ القُرْآنِ يَقْرَؤُونَ سُورَةَ ﴿يَس﴾ سَمِعَهُ في القَبْرِ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَك وَقَرَأَهَا مَعَهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا الحَاج مُحَمَّد عتر رَحِمَهُ اللهُ تعالى وَالِدُ الدكتور الشَّيْخِ نُور الدِّين عتر، قَالَ: رَأَيْتُهُ في مَنَامِي قَادِمَاً مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ حَالُهُ حَالُ الشَّبَابِ، لَابِسَاً حُلَّةً خَضْرَاءَ جَمِيلَةً، فَسَأَلْتُهُ: مَا فَعَلَ اللهُ بِكَ؟ وَأَنَا في المَنَامِ أَعْرِفُ أَنَّهُ مَيْتٌ.

فَقَالَ لِي: كُلُّ عَمَلِي لَمْ يَنْفَعْنِي سِوَى القُرْآنِ الكَرِيمِ فَبِبَرَكَتِهِ وَظَّفَنِي المَوْلَى عِنْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ جُزْءَاً، وَهَذِهِ عَوْدَتِي مِنْ عِنْدِهِ.

وَمِمَّا يَذْكُرُ أَيْضَاً أَنَّ كُلَّ مَنْ يُقْرِئُ الرِّوَايَاتِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، إِمَّا تِلْمِيذُهُ أَو تِلْمِيذُ تِلْمِيذِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ تَلَامِيذِهِ سِوَى الشَّيْخِ مُحَمَّد عَبْدِ الكَرِيم مَرْطُو حَفِظَهُ اللهُ تعالى وَأَمَدَّ في عُمُرِهِ.

رَحِمَهُ اللهُ تعالى وَأَلْحَقَنَا بِهِ عَلَى كَمَالِ الإِيمَانِ؛ اللَّهُمَّ عَطِّفْ قَلْبَهُ الشَّرِيفَ عَلَيْنَا، وَعَطِّفْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ قَلْبَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

رَحِمَ اللهُ تعالى الشَّيْخَ مُحَمَّد نَجِيب خَيَّاطَة وَسَائِرَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ؛ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

تاريخ الكلمة:

الخميس: 3/ شعبان /1439هـ، الموافق: 19/ نيسان / 2018م

 2020-01-14
 1774
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  باب التراجم

16-01-2020 2699 مشاهدة
24ـ الإمام مالك وكتابه الموطأ

الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كَانَ مِنْ سِمَاتِهِ أَنَّهُ يُجِيبُ عَمَّا يَقَعُ، وَكَانَ تَلَامِيذُهُ يَجْتَهِدُونَ أَحْيَانَاً أَنْ يَحْمِلُوهُ عَلَى الإِجَابَةِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تَقَعْ، فَلَا يُطَاوِعُهُمْ، وَلَا يُسَاقُ وَرَاءَ ... المزيد

 16-01-2020
 
 2699
16-01-2020 952 مشاهدة
23ـ ترجمة الإمام مالك رَحِمَهُ اللهُ تعالى

مَالِكٌ هُوَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَصْبَحِيُّ بِفَتْحِ الْبَاءِ نِسْبَةً إلَى ذِي أَصْبَحَ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ. وُلِدَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ ... المزيد

 16-01-2020
 
 952
16-01-2020 6580 مشاهدة
22- الإمام النووي رَحِمَهُ اللهُ تعالى

فَلَقَد رَأَيْتُ لِزَامَاً عَلَيَّ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِقِرَاءَةِ كِتَابِ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ للإِمَامِ الجَلِيلِ، وَالعَارِفِ بِاللهِ تعالى، التَّقِيِّ النَّقِيِّ الصَّالِحِ المُخْلِصِ المُخْلَصِ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ ... المزيد

 16-01-2020
 
 6580
14-01-2020 951 مشاهدة
21ـ الشيخ جميل العقاد رَحِمَهُ اللهُ تعالى (1)

هُوَ الشَّيْخُ جَمِيل بْنُ الشَّيْخِ مُحَمَّد ياسين العَقَّاد، وُلِدَ في حَيِّ الجَلُّومِ بِمَدِينَةِ حَلَبَ، مِنْ أَبَوَيْنِ كَرِيمَيْنِ وَأُسْرَةٍ ذَاتِ عِلْمٍ وَدِينٍ، فَقَدْ كَانَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ مُحَمَّد يَاسِين إِمَامَاً وَخَطِيبَاً ... المزيد

 14-01-2020
 
 951
14-01-2020 1375 مشاهدة
19ـ الشيخ أحمد المكتبي الكبير رَحِمَهُ اللهُ تعالى

هُوَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ ابْنُ الحَاجِّ مُصْطَفى بْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الوَهَّابِ بْنِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ الشَّيْخِ مُحَمَّد الشَّهِيرِ بِالمَكْتَبِيِّ، العَالِمُ العَامِلُ وَالجَهْبَذُ الكَامِلُ، المُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ الأُصُولِيُّ، ... المزيد

 14-01-2020
 
 1375
14-01-2020 1634 مشاهدة
18ـ الشيخ أحمد الحجار رَحِمَهُ اللهُ تعالى

هُوَ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّهَابِ أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ شَنُّون الحَجَّارُ الحَلَبِيُّ، نَشَأَ الشَّيْخُ في حِجْرِ أَبِيهِ وَكَانَ أَبُوهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، يَتَّصِلُ نَسَبُهُ بِالسَّادَةِ الأَشْرَافِ مِنْ أَهْلِ ... المزيد

 14-01-2020
 
 1634

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413814104
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :