690ـ خطبة الجمعة: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَاً وَجَارُهُ جَائِعٌ»

690ـ خطبة الجمعة: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَاً وَجَارُهُ جَائِعٌ»

690ـ خطبة الجمعة: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَاً وَجَارُهُ جَائِعٌ»

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: الدِّينُ الذي جَاءَ بِهِ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَكْمَلُ الأَدْيَانِ وَأَفْضَلُهَا وَأَعْلَاهَا وَأَجَلُّهَا، وَقَدْ حَوَى مِنَ المَحَاسِنِ وَالكَمَالِ وَالصَّلَاحِ وَالرَّحْمَةِ وَالعَدْلِ وَالحِكْمَةِ مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.

مِنْ هَذِهِ المَحَاسِنِ التَّكَافُلُ الاجْتِمَاعِيُّ الشَّامِلُ عَلَى الدَّعْوَةِ إلى الخَيْرِ، وَإِزَالَةِ المُنْكَرِ، وَحِمَايَةِ الضُّعَفَاءِ، وَمُسَاعَدَةِ الفُقَرَاءِ وَالمُعْوِزِينَ بِمَا يَكْفِيهِمْ، وَالإِحْسَاسِ الدَّقِيقِ بِكُلِّ مَا يُصِيبُ الأُمَّةَ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.

أَنْوَاعُ التَّكَافُلِ الاجْتِمَاعِيِّ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَنْوَاعِ التَّكَافُلِ الاجْتِمَاعِيِّ الزَّكَاةُ التي جَعَلَهَا اللهُ تعالى رُكْنَاً مِنْ أَرْكَانِ هَذَا الدِّينِ، وَضَرُورَةً مِنْ ضَرُورَاتِ الإِيمَانِ، وَلِأَهَمِّيَّتِهَا قُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾.

الزَّكَاةُ هِيَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ الضَّمَانِ الاجْتِمَاعِيِّ الذي جَاءَ بِهِ الإِسْلَامُ، فَالإِسْلَامُ يَأْبَى أَنْ يُوجَدَ في مُجْتَمَعِهِ مَنْ لَا يَجِدُ القُوتَ الذي يَكْفِيهِ، وَالثَّوْبَ الذي يُزَيِّنُهُ وَيُوَارِيهِ، وَالمَسْكَنَ الذي يُؤْوِيهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: بَلْ أَوْجَبَ دِينُنَا الحَنِيفُ عَلَى الأَغْنِيَاءِ حَقَّاً سِوَى الزَّكَاةِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتِ الأُمَّةُ بِحَاجَةٍ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي المَالِ حَقَّاً سِوَى الزَّكَاةِ» رواه الترمذي عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. وَقَالَ تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾. لَمْ يَقُلْ مَعْلُومَاً، بَلْ حَقٌّ مُطْلَقٌ عِنْدَ الحَاجَةِ.

وَلَقَدْ رَغَّبَ اللهُ تعالى الأُمَّةَ في الصَّدَقَةِ فَضْلَاً عَنِ الزَّكَاةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضَاً حَسَنَاً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾؟

وَالذي يُمْسِكُ وَلَا يُنْفِقُ، وَخَاصَّةً وَقْتَ الحَاجَةِ، فَهُنَاكَ مَلَكٌ يَدْعُو عَلَيْهِ بِإِتْلَافِ مَالِهِ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقَاً خَلَفَاً، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكَاً تَلَفَاً» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

«مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَاً وَجَارُهُ جَائِعٌ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ حَذَّرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المُسْلِمَ الذي لَا يَهْتَمُّ بِشَأْنِ جَارِهِ، وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَاً وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وروى البيهقي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَ جَارِهِ مَخَافَةً عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ فَلَيْسَ ذَاكَ بِمُؤْمِنٍ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْجَارِ: إِذَا اسْتَعَانَكَ أَعَنْتُهُ، وَإِذَا اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِذَا افْتَقَرَ عُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَإِذَا مَاتَ اتَّبَعْتَ جِنَازَتَهُ، وَلَا تَسْتَطِيلُ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ تَحْجُبُ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تُؤْذِيهِ بِقُتَارِ قِدْرِكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا، وَإِنِ اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً فَاهْدِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا سِرَّاً، وَلَا يَخْرُجُ بِهَا وَلَدُكَ لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ الْجَارِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَبْلُغُ حَقَّ الْجَارِ إِلَّا قَلِيلٌ مِمَّنْ رَحِمَ اللهُ» فَمَا زَالَ يُوصِيهِمْ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ. وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الإِحْسَانَ وَخَاصَّةً إلى الفَقِيرِ القَرِيبِ بُرْهَانٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى، وَدَلِيلٌ عَمَلِيٌّ عَلَى صِدْقِ هَذَا العَبْدِ المُحْسِنِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنَاً، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمَاً، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّاسَ في الجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحْسِنُونَ إلى الجِوَارِ، وَخَاصَّةً في الشَّدَائِدِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: كَانَ أَبُو حَازِمٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ، يَنْعِي عَلَى المُسْلِمِينَ في وَقْتِهِ ضَيَاعَ حُقُوقِ الجَارِ، حَيْثُ قَالَ كَمَا رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ: كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ أَحْسَنَ جِوَارَاً مِنْكُمْ، وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

نَـارِي وَنَـارُ الْـجَارِ وَاحِدَةٌ    ***   وَإِلَيْــــهِ قَبْلِي يُنْزَلُ الْقِدْرُ

مَا ضَرَّ لِي جَارًا أُجَـــــاوِرُهُ   ***   أَنْ لَا يَــــكُونَ لِبَابِهِ سِتْرُ

أَعْمَى إِذَا مَا جَــارَتِي بَرَزَتْ   ***   حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَتَّقِ اللهَ تعالى في الأُمَّةِ، وَخَاصَّةً في الجَارِ، الذي قَالَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

اللَّهُمَّ لَا تَنْزِعِ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 22/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 17/ كانون الثاني / 2020م

 2020-01-17
 3327
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 38 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 38
12-04-2024 663 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 663
09-04-2024 560 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 560
04-04-2024 680 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 680
28-03-2024 570 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 570
21-03-2024 1001 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1001

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412838074
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :