711ـ خطبة الجمعة: رب أمر تتقيه جرَّ أمرًا ترتضيه

711ـ خطبة الجمعة: رب أمر تتقيه جرَّ أمرًا ترتضيه

711ـ خطبة الجمعة: رب أمر تتقيه جرَّ أمرًا ترتضيه

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: حَاشَا لِرَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعَذِّبَ المُؤْمِنِينَ بِالابْتِلَاءَاتِ وَالشَّدَائِدِ، وَحَاشَاهُ أَنْ يَضُرَّهُم بِالفِتَنِ.

نَعَمْ، الابْتِلَاءُ للمُؤْمِنِ كَاللَّهَبِ للذَّهَبِ، الابْتِلَاءُ إِعْدَادٌ حَقِيقِيٌّ لِتَحَمُّلِ الأَمَانَةِ، وَهَذَا الإِعْدَادُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالمُعَانَاةِ الحَقِيقِيَّةِ الشَّاقَّةِ، لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالاسْتِعْلَاءِ الحَقِيقِيِّ عَلَى الشَّهَوَاتِ، لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالصَّبْرِ الحَقِيقِيِّ عَلَى الآلَامِ، لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالثِّقَةِ بِوَعْدِ اللهِ الذي لَا يُخْلَفُ.

الابْتِلَاءُ تَطْهِيرٌ للنَّفْسِ وَرُعُونَاتِهَا، يَنْفِي عَنْهَا الخَبَثَ، وَيَسْتَثِيرَ كَامِنَ قُوَاهَا، وَيَطْرُقُهَا بِعُنْفٍ وَشِدَّةٍ فَيَشْتَدُّ عُودُهَا، الابْتِلَاءُ وَالشِّدَّةُ تَجْعَلُ المُؤْمِنَ صَامِدًا، وَأَصْلَبَ عُودًا، وَأَشَدَّ اتِّصَالًا بِاللهِ تعالى، وَثِقَةً فِيمَا عِنْدَهُ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ حَالَةٍ أَصْبَحْتُ، عَلَى مَا أُحِبُّ، أَوْ عَلَى مَا أَكْرَهُ، وَذَلِكَ أَنِّي لَا أَدْرِي الْخَيْرُ فِيمَا أُحِبُّ، أَوْ فِيمَا أَكْرَهُ.

﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: تَأَمَّلُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾.

لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تعالى حِكْمَةَ مَا كَرِهُوهُ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ، مِنْ صَدِّ المُشْرِكِينَ لَهُمْ عَنِ البَيْتِ حَتَّى رَجَعُوا وَلَمْ يَعْتَمِرُوا، مَعَ الشُّرُوطِ القَاسِيَةِ التي تَعْرِفُونَهَا، بَيَّنَ لَهُمُ اللهُ تعالى أَنَّ مَطْلُوبَهُمْ يَحْصُلُ بَعْدَ هَذَا، وَحَقًّا لَقَدْ كَانَ فَتْحًا مُبِينًا بَعْدَ تِلْكَ المِحْنَةِ القَاسِيَةِ التي تَجَلَّتْ في مَوْقِفِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذْ قَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الجَنَّةِ، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى».

قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ، وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا.

فَقَالَ: «يَا ابْنَ الخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا».

فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا، فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟. قَالَ: يَا ابْنَ الخَطَّابِ، إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا تَكْرَهُوا الشَّدَائِدَ وَالمِحَنَ وَالمُلِمَّاتِ وَغَلَاءَ الأَسْعَارِ، فَرُبَّ أَمْرٍ نَكْرَهُهُ فِيهِ نَجَاتُنَا، وَرُبَّ أَمْرٍ نُحِبُّهُ فِيهِ عَطَبُنَا.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

رُبَّ أَمْرٍ تَتَّقِيهِ جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيهِ   ***   خَفِيَ المَحْبُوبُ مِنْهُ وَبَدَا المَكْرُوهُ فِيهِ

وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

هَذِهِ الآوِنَةُ وَهَذَا الغَلَاءُ وَهَذِهِ المِحْنَةُ فَرَّقَتْ بَيْنَ المُحْتَكِرِ وَالمُؤْثِرِ عَلَى نَفْسِهِ، في هَذِهِ الآوِنَةِ ظَهَرَ المُحْتَكِرُ، وَالذي انْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» رواه الحاكم عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَتَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بِئْسَ الْعَبْدُ الْمُحْتَكِرُ، إِنْ أَرْخَصَ اللهُ الْأَسْعَارَ حَزِنَ، وَإِنْ أَغْلَاهَا اللهُ فَرِحَ» رواه الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَتَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» رواه ابن ماجه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَتَحْتَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» رواه الإمام مسلم عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَفي نَفْسِ الآوِنَةِ ظَهَرَ الذي يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ، ظَهَرَ الذي يُحِبُّ الخَيْرَ للآخَرِينَ كَمَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ، ظَهَرَ مَنِ انْطَبَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾.

ظَهَرَ مَنِ انْطَبَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَكُنْ جَمِيعًا مِنَ الشَّرِيحَةِ الثَّانِيَةِ، لِنَكُنْ مِنْ أَهْلِ الإِيثَارِ، لِنَكُنْ في هَذِهِ الآوِنَةِ مِمَّنْ ظَهَرَ مَعْدِنُهُ الخَيِّرُ، فَلَا يُذْكَرُ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَبِإِذْنِ اللهِ تعالى سَوْفَ يَكُونُ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ في الآخِرِينَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 20/ شوال /1441هـ، الموافق: 12/ حزيران / 2020م

 2020-06-12
 5066
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

28-11-2024 3025 مشاهدة
932ـ خطبة الجمعة: مهمتنا أيام الكرب والغمة

أَحْوَالٌ عَصِيبَةٌ، وَظُرُوفٌ رَهِيبَةٌ تُحِيطُ بِأَهْلِ بِلَادِ الشَّامِ في هَذِهِ الأَيَّامِ، نَرَى صُوَرًا مُحْزِنَةً، أُمَّةٌ في مَجْمُوعِهَا كَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، أُمَّةٌ قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ... المزيد

 28-11-2024
 
 3025
22-11-2024 1082 مشاهدة
931ـ خطبة الجمعة: الدافع إلى محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

الإنْسَانُ السَّوِيُّ مَجْبُولٌ وَمَفْطُورٌ مِنْ أَصْلِ خَلْقِهِ عَلَى الحُبِّ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إِنْسَانٍ سَوِيٍّ عَاقِلٍ بِدُونِ حُبٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الحُبُّ مُدَنَّسًا أَمْ مُقَدَّسًا، فَالمُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ... المزيد

 22-11-2024
 
 1082
14-11-2024 1251 مشاهدة
930ـ خطبة الجمعة: غرس الله تعالى محبته صلى الله عليه وسلم في الجمادات وغيرها

لَقَدْ عَظَّمَ اللهُ نَبِيَّنَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَكْرَمَهُ، وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ، وَأَعْطَاهُ مِنَ المِيزَاتِ وَالخَصَائِصِ مَا لَمْ يُعْطِهِ لِأَحَدٍ مِنَ البَشَرِ ... المزيد

 14-11-2024
 
 1251
04-10-2024 4846 مشاهدة
929ـ خطبة الجمعة: الأدب مع الله قلبًا ولسانًا وأركانًا

إِنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الأَدَبِ الأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى، بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ أَدَبٍ، وَالأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى هُوَ حُسْنُ الانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مَعَ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالحَيَاءِ مِنْهُ تَبَارَكَ وتعالى. ... المزيد

 04-10-2024
 
 4846
27-09-2024 2827 مشاهدة
928ـ خطبة الجمعة: الآداب المطلوبة من كل مسلم

لَقَدْ جَاءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةٍ مِنْ عِنْدِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى لِخَلْقِهِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَتَأَدَّبُ مَعَ حَبِيبِهِ ... المزيد

 27-09-2024
 
 2827
20-09-2024 2016 مشاهدة
927ـ خطبة الجمعة: الأدب معه صلى الله عليه وسلم

مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ وَإِنْصَافٍ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُو جَمِيعَ العُقَلَاءِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ إلى الأَدَبِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ... المزيد

 20-09-2024
 
 2016

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5638
المقالات 3202
المكتبة الصوتية 4873
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 420838060
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :