722ـ خطبة الجمعة: المصائب والمحن في الأولين والآخرين

722ـ خطبة الجمعة: المصائب والمحن في الأولين والآخرين

722ـ خطبة الجمعة: المصائب والمحن في الأولين والآخرين

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَا نَحْنُ في بِدَايَةِ عَامٍ هِجْرِيٍّ جَدِيدٍ، بَعْدَ أَنْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا مَضَى مِنْ عُمُرِنَا، وَجَدِيرٌ بِنَا أَنْ نَتَأَمَّلَ وَنَتَفَكَّرَ في أَحْدَاثِ العَامِ المُنْصَرِمِ، لَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَى مَسَرَّاتٍ وَأَحْزَانٍ، وَأَكْرَمَ اللهُ تعالى البَعْضَ بِالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ، وَابْتَلَى اللهُ تعالى آخَرِينَ بِالمَرَضِ.

لَقَدْ مَضَى عَامٌّ هِجْرِيٌّ كَامِلٌ شَارَفَ فِيه البَعْضُ عَلَى الهَلَكَةِ وَالمَوْتِ، ثُمَّ أَمْتَعَهُمُ اللهُ تعالى إلى حِينٍ، وَفِيهِ مَنْ أَرَاحَهُ اللهُ تعالى بِالمَوْتِ مِنْ عَنَاءِ الدُّنْيَا وَتَعَبِهَا وَنَصَبِهَا.

فِيهِ ابْتَلَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ البَعْضَ بِالغِنَى، وَالبَعْضَ الآخَرَ بِالفَقْرِ، فَأَغْنَى وَأَقْنَى، وَفِيهِ أَضْحَكَ رَبُّنَا وَأَبْكَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَعَلَيْهِ النَّشْأَةُ الأُخْرَى.

فِيهِ وَقَعَ ظُلْمٌ عَلَى الأَبْرِيَاءِ، وَفِيهِ مَنْ عَاثَ في الأَرْضِ فَسَادًا، فِيهِ مَنْ أَرْعَبَ النَّاسَ وَأَوْهَمَهُمْ بِالشَّائِعَاتِ الكَاذِبَةِ، وَفِيهِ مَنْ بَشَّرَ وَزَرَعَ الأَمَلَ وَالفَأْلَ الحَسَنَ في نُفُوسِ الآخَرِينَ، فِيهِ مَنْ قَالَ كَلِمَةَ شَرٍّ فَدَمَّرَتْ، وَفِيهِ مَنْ قَالَ كَلِمَةَ خَيْرٍ فَعَمَّرَتْ، فِيهِ مَنْ فَتَنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، وَفِيهِ مَنْ تَابَ إلى اللهِ تعالى تَوْبَةً صَادِقَةً نَصُوحًا مِنَ الفِتَنْ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا غَرَابَةَ أَنْ يَقَعَ هَذَا في دَارِ الغُرُورِ، دَارِ الفَنَاءِ، دَارِ الابْتِلَاءِ، فَطُوبَى لِمَنْ شَكَرَ وَصَبَرَ، وَطُوبَى لِمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ، وَطُوبَى لِمَنِ اسْتَقَامَ عَلَى شَرْعِ اللهِ تعالى بَعْدَ أَنْ قَالَ: رَبِّيَ اللهُ، وَطُوبَى لِمَنْ تَنَبَّهَ مِنْ غَفْلَتِهِ فَعَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ دَارُ مَمَرٍّ لَا مَقَرٍّ، وَأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنَ المُنَغِّصَاتِ، فَعَبَدَ اللهَ حَقَّ العِبَادَةِ حَتَّى أَتَاهُ اليَقِينُ.

طُوبَى لِمَنْ لَمْ يَغْتَرَّ إِذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَيْأَسْ إِنْ أَدْبَرَتْ وَوَلَّتْ، وَطُوبَى لِمَنْ وَقَفَ عَلَى حَقِيقَةِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾. فَرَاجَعَ نَفْسَهُ وَحَاسَبَهَا حِسَابًا شَدِيدًا حَتَّى يُوقِفَهَا عَلَى أَمْرِ اللهِ تعالى، وَطُوبَى لِمَنْ وَقَفَ عَلَى حَقِيقَةِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾. فَزَادَ إِيمَانَهُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ، وَرَضِيَ عَنِ اللهِ تعالى فِيمَا قَضَى وَقَدَّرَ.

المَصَائِبُ وَالمِحَنُ عَامَّةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَعْلَمْ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّ المَصَائِبَ وَالمِحَنَ وَالابْتِلَاءَاتِ وَالشَّدَائِدَ وَالأَسْقَامَ وَالأَوْجَاعَ وَالطَّوَاعِينَ لَيْسَتْ قَصْرًا عَلَى جِيلٍ دُونَ جِيلٍ، وَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِأُمَّةٍ دُونَ أُمَّةٍ، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ في الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَشْمَلُ الصَّالِحِينَ وَالطَّالِحِينَ، قَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: المَصَائِبُ وَالمِحَنُ وَالشَّدَائِدُ وَالابْتِلَاءَاتُ يَمِيزُ اللهُ تعالى فِيهَا الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَيُثَبِّتُ اللهُ تعالى المُؤْمِنِينَ فِيهَا، وَيُلْقِي الرَّوْعَ وَالهَلَعَ وَالخَوْفَ وَالهَمَّ وَالحُزْنَ في قُلُوبِ الآخَرِينَ؛ وَتَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى عِنْدَمَا ذَكَرَ يَوْمَ أُحُدٍ وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالمِحَنِ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾.

نَعَمْ لَقَدْ كَانَتْ أُمُّنَا أُمُّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تُدْرِكُ هَوْلَ هَذِهِ المَعْرَكَةِ وَشِدَّتَهَا عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تَقُولُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ رواه الشيخان.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِيُنَادِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا في هَذِهِ الآوِنَةِ، في هَذِهِ الأَيَّامِ، أَيَّامِ البَلَاءِ وَالغَلَاءِ، لِيُنَادِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ أَهْلَهُ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ: ﴿فَفِرُّوا إلى اللهِ﴾ ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ﴾.

ثَبِّتُوا أَنْفُسَكُمْ وَغَيْرَكُمْ بِالبَشَائِرِ، فَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ وَتَنْتَهِي هَذِهِ الأَيَّامُ العَصِيبَةُ، فَطُوبَى لِمَنْ ثَبَتَ وَثَبَّتَ، وَبَشَّرَ وَأَمَّنَ، وَزَرَعَ الأَمَلَ في نُفُوسِ العِبَادِ، وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا البَلَاءَ، وَثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ محرم /1442هـ، الموافق: 21/آب / 2020م

 2020-08-21
 6972
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 199 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 199
12-04-2024 891 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 891
09-04-2024 604 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 604
04-04-2024 708 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 708
28-03-2024 627 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 627
21-03-2024 1119 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1119

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413664282
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :