740ـ خطبة الجمعة: انتظار الفرج عبادة

740ـ خطبة الجمعة: انتظار الفرج عبادة

740ـ خطبة الجمعة: انتظار الفرج عبادة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: يَبْتَلِي اللهُ تعالى عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الابْتِلَاءِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾. يَبْتلِيهِمْ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الابْتِلَاءَاتِ لِيُظْهِرَ مَا في نُفُوسِهِمْ، وَيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَبِهَا يَمِيزُ اللهُ تعالى الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَهِيَ في الحَقِيقَةِ خَيْرٌ لَهُمْ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَكُنْ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ الابْتِلَاءَاتِ وَالشَّدَائِدَ إِذَا نَزَلَتْ عَلَى المُسْلِمِينَ نَزَلَتْ وَهِيَ مَمْزُوجَةٌ بِلُطْفِ اللهِ تعالى، مَنْ ظَنَّ انْفِكَاكَ لُطْفِهِ عَنْ قَدَرِهِ فذَلِكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِ؛ نَعَمْ تَنْزِلُ الابْتِلَاءَاتُ وَالشَّدَائِدُ وَتَنْزِلُ مَعَهَا مِنَ اللهِ تعالى المَعُونَةُ؛ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَعُونَةَ تَأْتِي مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ المَؤُونَةِ، وَإِنَّ الصَّبْرَ يَأْتِي مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ الْمُصِيبَةِ» رواه البَزَّارُ والبيهقي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

انْتِظَارُ الفَرَجِ عِبَادَةٌ:

يَا عِبَادَ اللهِ: نَعِيشُ أَيَّامًا قَاسِيَةً مِنْ غَلَاءٍ وَوَبَاءٍ وَبَلَاءٍ وَتَسَلُّطِ أَعْدَاءٍ، وَاخْتِلَاطِ الحَابِلِ بِالنَّابِلِ، وَتَضْيِيعِ حُقُوقٍ، وَظُلْمٍ، وَهَضْمٍ للحُقُوقِ؛ لَا يَسَعُنَا في هَذِهِ الأَيَّامِ إِلَّا انْتِظَارُ الفَرَجِ، وَتَرَقُّبُ انْكِشَافِ الغُمَّةِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ شِرَاكِ نَعْلِنَا إِنْ صَدَقْنَا في تَوْبَتِنَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» رواه الحاكم عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَهَذَا التَّرَقُّبُ للفَرَجِ وَانْتِظَارُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَصْحُوبًا بِبَذْلِ الأَسْبَابِ، لِكَشْفِ البَلَاءِ وَالشَّدَائِدِ، وَعَلَى رَأْسِهَا التَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ إلى اللهِ تعالى، مَعَ تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَالصَّبْرِ وَالمُصَابَرَةِ، وَإِعَادَةِ الحُقُوقِ لِأَصْحَابِهَا.

نَعَمْ، إِنَّ انْتِظَارَ الفَرَجِ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ أَجَلِّ العِبَادَاتِ، وَمِنَ المُحَالِ دَوَامُ الحَالِ، وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، سَيَكُونُ بَعْدَ الجُوعِ شِبَعٌ، وَبَعْدَ الظَّمَأِ رِيٌّ، وَبَعْدَ الخَوْفِ أَمْنٌ، وَبَعْدَ المِحَنِ مِنَحٌ، وَبَعْدَ السَّهَرِ نَوْمٌ، وَبَعْدَ المَرَضِ عَافِيَةٌ ﴿فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾. ﴿لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: كُلَّمَا اشْتَدَّ ظَلَامُ اللَّيْلِ بشَّرَنَا بِفَجْرٍ صَادِقٍ يُطَارِدُ هَذَا اللَّيْلَ عَلَى رُؤُوسِ الجِبَالِ، وَبَاطِنِ الأَوْدِيَةِ، لِذَا أَبْشِرُوا وَبَشِّرُوا، بَشِّرُوا المَهْمُومَ بِفَرَجٍ مُفَاجِئٍ، وَبَشِّرُوا المَنْكُوبَ بِلُطْفٍ خَفِيٍّ، وَبَشِّرُوا المَرِيضَ بِالعَافِيَةِ.

لِتَكُنْ مَعَ الدَّمْعَةِ بَسْمَةٌ، وَمَعَ الخَوْفِ أَمْنٌ، وَمَعَ الفَزَعِ سَكِينَةٌ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.

هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّارَ لَمْ تَحْرِقْ سَيِّدَنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّ الرِّعَايَةَ الرَّبَّانِيَّةَ كَانَتْ تَحُفُّهُ؟ ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾.

هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا سَبِيلًا إلى سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَنْ مَعَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾؟

وَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ قُرَيْشًا وَصَلَتْ إلى فَمِ الغَارِ، وَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَنَالُوا مِنْ مَأْرَبِهِمْ شَيْئًا، لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِمَعِيَّةِ اللهِ تعالى: ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا تَضِيقُوا ذَرْعًا، فَأَفْضَلُ العِبادَةِ انْتِظَارُ الفَرَجِ، والأَيَّامُ دُوَلٌ، وَاللَّيَالِي حُبَالَى، وَالغَيْبُ مَسْتُورٌ، وَالحَكِيمُ الرَّحِيمُ الوَدُودُ الجَوَادُ الكَرِيمُ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ، وَلَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، وَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا، وَأَبْشِرُوا.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

‏وَإِذَا الـبَـشَـائِرُ لَـمْ تَحِـنْ أَوْقَـــــاتُهَا   ***   فَـلِـحِـكْمَةٍ عِــنْدَ الإِلَهِ تَـــأَخَّرَتْ

سَـيَسُوقُهَا في حِـيــنِهَا فَـــاصْـبِرْ لَهَا   ***   حَتَّى وَإِنْ ضَاقَتْ عَلَيْكَ وَأَقْـفَرَتْ

وَغَدًا سَـيَجْرِي دَمْعُ عَيْنِكَ فَـرْحَــةً    ***   وَتَرَى السَّحَائِبَ بِالأَمَانِي أَمْطَرَتْ

وَتَرَى ظُرُوفَ الأَمْسِ صَارَتْ بَلْسَمًا    ***   وَهِيَ التي أَعْيَتْكَ حِــينَ تَـعَسَّرَتْ

وَتَـقُـولُ سُـبْـحَانَ الذي رَفَعَ الــبَلَا   ***   مِنْ بَعْدِ أَنْ فُقِدَ الرَّجَاءُ تَـــيَسَّرَتْ

اللَّهُمَّ عَجِّلْ بِالفَرَجِ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 10/ جمادى الأولى /1442هـ، الموافق: 25/كانون الأول / 2020م

 2020-12-24
 14958
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

04-07-2025 359 مشاهدة
946ـ خطبة الجمعة: تفرسوا وجوه الناس

أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد

 04-07-2025
 
 359
25-06-2025 600 مشاهدة
945ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾

لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد

 25-06-2025
 
 600
19-06-2025 935 مشاهدة
944ـ خطبة الجمعة: وقفة تساءل وتأمل

لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد

 19-06-2025
 
 935
12-06-2025 1080 مشاهدة
943ـ خطبة الجمعة: هل تشعر بآلام الآخرين؟

لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد

 12-06-2025
 
 1080
04-06-2025 430 مشاهدة
942ـ خطبة الجمعة: ماذا نقول لإخوتنا في غزة أيام العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد

 04-06-2025
 
 430
04-06-2025 342 مشاهدة
941ـ خطبة عيد الأضحى 1446هـ: المغزى الحقيقي من العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ ... المزيد

 04-06-2025
 
 342

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3235
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424807464
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :