9ـ السيدة آمنة بنت وهب رضي الله عنها وأرضاها (4)

9ـ السيدة آمنة بنت وهب رضي الله عنها وأرضاها (4)

9ـ السيدة آمنة بنت وهب رضي الله عنها وأرضاها (4)

مقدمة الكلمة:

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لمَّا انْصَرَفَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ مَعَ أَبِيهِ مِنْ نَحْرِ الإِبِلِ، مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، وَهِيَ عِنْدَ الكَعْبَةِ، وَاسْمُهَا قُتَيْلَةُ  ـ بِضَمِّ القَافِ وَفَتْحِ المُثَنَّاةِ الفَوْقِيَّةِ ـ وَيُقَالُ: رَقِيقَةُ بِنْتُ نَوْفَلَ، فَقَالَتْ لَهُ حِينَ نَظَرَتْ إلى وَجْهِهِ، وَكَانَ أَحْسَنَ رَجُلٍ رُئِيَ في قُرَيْشٍ: لَكَ مِثْلُ الإِبِلِ التي نُحِرَتْ عَنْكَ وَقَعْ عَلَيَّ الآنَ، لِمَا رَأَتْ في وَجْهِهِ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ، وَرَجَتْ أَنْ تَحْمِلَ بِهَذَا النَّبِيِّ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ لَهَا: أَنَا مَعَ أَبِي، وَلَا أَسْتَطِيعُ خِلَافَهُ وَلَا فِرَاقَهُ، وَقِيلَ: أَجَابَهَا بِقَوْلِهِ:

أَمَّــا الحَــرَامُ فَالمَمَاتُ دُونَهُ   ***   وَالحِــلُّ لَا حِــلٌّ فَأَسْتَبِينَهُ

فَكَيْفَ بِالأَمْرِ الذي تَـبْغِينَهُ   ***   يَحْمِي الكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَهُ

وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ وَالخَرَائِطِيِّ وَابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا خَرَجَ عَبْدُ المُطَّلِبِ بِابْنِهِ عَبْدِ اللهِ لِيُزَوِّجَهُ، مَرَّ بِهِ عَلَى كَاهِنَةٍ مِنْ تَبَالَةَ مُتَهَوِّدَةٍ قَدْ قَرَأَتِ الكُتُبَ، يُقَالُ لَهَا: فَاطِمَةُ بِنْتُ مُرٍّ الْخَثْعَمِيَّةُ، فَرَأَتْ نُورَ النُّبُوَّةِ في وَجْهِ عَبْدِ اللهِ فَقَالَتْ لَهُ  . . . وَذَكَرَ نَحْوَهُ.

ثُمَّ خَرَجَ بِهِ عَبْدُ المُطَّلِبِ، حَتَّى أَتَى بِهِ وَهْبَ بْنَ عَبْدِ مَنَافَ بْنِ زُهْرَةَ ـ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي زُهْرَةَ نَسَبًا وَشَرَفًا ـ فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ آمِنَةَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ امْرَأَةٍ في قُرَيْشٍ نَسَبًا وَمَوْضِعًا.

فَزَعَمُوا: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللهِ حِينَ مَلَكَهَا مَكَانَهُ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا يَوْمَ الاثْنَيْنِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى، في شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الجَمْرَةِ، فَحَمَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَأَتَى المَرْأَةَ التي عَرَضَتْ عَلَيْهِ مَا عَرَضَتْ، فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ لَا تَعْرِضِينَ عَلَيَّ اليَوْمَ مَا عَرَضْتِ عَلَيَّ بِالأَمْسِ؟ فَقَالَتْ: فَارَقَكَ النُّورُ الذي كَانَ مَعَكَ بِالأَمْسِ، فَلَيْسَ لِي بِكَ اليَوْمَ حَاجَةٌ، إِنَّمَا أَرَدْتِ أَنْ يَكُونَ النُّورُ فِيَّ فَأَبَى اللهُ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ حَيْثُ شَاءَ.

وَكَانَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ قَدِ اشْتَهَرَ بِالوَسَامَةِ، فَكَانَ أَجْمَلَ الشَّبَابِ، وَأَكْثَرَهُمْ سِحْرًا وَذُيُوعَ صِيتٍ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ؛ وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا خَطَبَ آمِنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا تَحَطَّمَتْ قُلُوبُ كَثِيرَاتٍ مِنْ سَيِّدَاتِ مَكَّةَ.

سَفَرُ عَبْدِ اللهِ بَعْدَ زَوَاجِهِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بَعْدَ أَنْ تَمَّ زَوَاجُ سَيِّدِنَا عَبْدِ اللهِ مِنَ السَّيِّدَةِ آمِنَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، اسْتَيْقَظَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ نَوْمِهَا لِتُحَدِّثَ زَوْجَهَا عَنْ رُؤْيَاهَا.

رَأَتْ كَأَنَّ شُعَاعًا مِنَ النُّورِ يَنْبَثِقُ مِنْ كِيَانِهَا اللَّطِيفِ فَيُضِيءُ الدُّنْيَا مِنْ حَوْلِهَا، حَتَّى لَكَأَنَّهَا تَرَى بِهِ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَسَمِعَتْ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِهَا: إِنَّكِ قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الأُمَّةِ.

وَبَقِيَ عَبْدُ اللهِ مَعَ عَرُوسِهِ أَيَّامًا لَمْ يُحَدِّدْ لَنَا الرُّوَاةُ عَدَدَهَا، وَلَكِنَّهَا عِنْدَ جَمْهَرَةِ المُؤَرِّخِينَ لَمْ تَتَجَاوَزْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْحَقَ بِالقَافِلَةِ التِّجَارِيَّةِ المُسَافِرَةِ إلى غَزَّةَ وَالشَّامِ في عِيرِ قُرَيْشٍ.

وَدَّعَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ زَوْجَتَهُ الحَنُونَةَ حِينَ أَذَّنَ المُؤَذِّنُ بِرَحِيلِ القَافِلَةِ، وَقَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا بِضْعَةُ أَسَابِيعَ ثُمَّ أَعُودُ إِليْكِ يَا آمِنَةُ.

وَمَرَّتْ أَيَّامٌ وَلَيَالٍ، وَآمِنَةُ في بَيْتِهَا لَا تَبْرَحُهُ، تُكَابِدُ أَشْجَانَهَا، وَتُرْسِلُ قَلْبَهَا في أَثَرِ الحَبِيبِ الرَّاحِلِ، وَحَاوَلَ أَهْلُهَا وَعَبْدُ المُطَّلِبِ أَنْ يَصْرِفُوهَا عَنْ وَحْدَتِهَا حِرْصًا عَلَى صِحَّتِهَا، لَكِنَّهَا آثَرَتِ العُزْلَةَ عَلَى الأُنْسِ بِالأَهْلِ وَالصَّوَاحِبِ.

وَمَضَى شَهْرٌ وَشَعَرَتْ بِالحَمْلِ، وَكَانَ شُعُورُهَا بِهِ رَقِيقًا لطِيفًا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وروى ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ الوَاقِدِيِّ بِسَنَدِهِ إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زُمْعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمَّتِهِ قَالَتْ: كُنَّا نَسْمَعُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَمَلَتْ بِهِ آمِنَةُ كَانَتْ تَقُولُ: مَا شَعَرْتُ أَنِّي حَمَلْتُ بِهِ وَلَا وَجَدْتُ ثِقَلَهُ كَمَا تَجِدُ النِّسَاءُ، إِلَّا أَنَّنِي أَنْكَرْتُ رَفْعَ حَيْضَتِي وَرُبَّمَا تَرْفَعُنِي وَتَعُودُ، وَأَتَانِي آتٍ وَأَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَاليَقْظَانِ فَقَالَ لِي: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكِ حَمَلْتِ؟ فَأَقُولُ: مَا أَدْرِي؛ فَقَالَ: إِنَّكِ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا وَذَلِكَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مَعَهُ نُورٌ يَمْلَأُ قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَإِذَا وُضِعَ فَسَمِّيهِ مُحَمَّدًا.

قَالَتْ: فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقَّنَ عِنْدِيَ الحَمْلَ.

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَتْ آمِنَةُ: لَقَدْ عَلِقْتُ بِهِ فَمَا وَجَدْتُ مَشَقَّةً حَتَّى وَضَعْتُهُ.

وَوَدَّتْ لَو طَارَتْ بِالبُشْرَى إلى عَبْدِ اللهِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُعَطِّفَ عَلَيْنَا قَلْبَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 22/ جمادى الآخرة /1442هـ، الموافق: 4/ شباط / 2021م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع أمهاتنا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

12-01-2024 113 مشاهدة
37ـ الطاهرة سيدة الشعب

وَدَعُونَا الآنَ نَتَتَبَّعُ جَانِبًا مِنَ السِّيرَةِ العَطِرَةِ لِهَذِهِ السَّيِّدَةِ العَظِيمَةِ، وَصَبْرِهَا وَاحْتِسَابِهَا وَحُبِّهَا وَحَدْبِهَا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ في ... المزيد

 12-01-2024
 
 113
30-12-2023 131 مشاهدة
36ـ صلاتها مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

كَانَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَقْرَبَ مَا تَكُونُ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تُتَابِعُهُ، وَتَقْتَدِي بِهِ، وَتَسْمَعُ مِنْهُ وَتَحْفَظُ لَهُ، وَتَسْعَى ... المزيد

 30-12-2023
 
 131
24-11-2023 207 مشاهدة
35ـ البشرى

حُبِّبَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الخَلْوَةُ، فَكَانَ يَذْهَبُ إلى غَارِ حِرَاءٍ يَتَعَبَّدُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، ثُمَّ يَعُودُ إلى خَدِيجَةَ لِيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا. ... المزيد

 24-11-2023
 
 207
11-09-2023 280 مشاهدة
34ـ بدء الوحي

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مُشْرِقَةٌ مِنْ صُوَرِ حَيَاةِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ، فَمَا إِنْ حَدَّثَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ حَتَّى ... المزيد

 11-09-2023
 
 280
10-08-2023 238 مشاهدة
33ـ أيام حراء

مُنْذُ ضَمَّهَا البَيْتُ السَّعِيدُ قَامَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِوَاجِبِهَا كَامِلًا نَحْوَ زَوْجِهَا الحَبِيبِ، فَمَلَأَتْ أَيَّامَهُ سَعَادَةً وَهَنَاءً، تَتَحَسَّسُ مَرَاضِيَهُ فَتُسَارِعُ إِلَيْهَا، وَتَجْعَلُ نَفْسَهَا وَمَالَهَا ... المزيد

 10-08-2023
 
 238
09-03-2023 241 مشاهدة
32ـ حياة السيدة خديجة من الزواج إلى البعثة

السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا جُبِلَتْ عَلَى فِطْرَةٍ كَرِيمَةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ عَالِيَةٍ وَحَنَانٍ فَيَّاضٍ، مَا إِنْ تَزَوَّجَتْ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ... المزيد

 09-03-2023
 
 241

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3152
المكتبة الصوتية 4740
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411767566
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :