769ـ خطبة الجمعة: الإصلاح بين الناس من أقدس الأعمال الصالحة

769ـ خطبة الجمعة: الإصلاح بين الناس من أقدس الأعمال الصالحة

769ـ خطبة الجمعة: الإصلاح بين الناس من أقدس الأعمال الصالحة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الأَيَّامُ العَشْرُ مِنْ ذِي الحِجَّةِ قَدْ أَطَلَّتْ عَلَيْنَا، وَهِيَ مَوْسِمٌ مِنَ المَوَاسِمِ التي يَتَقَرَّبُ بِهَا المُتَقَرِّبُونَ إلى اللهِ تعالى، هِيَ مَوْسِمٌ عَظِيمٌ مِنَ المَوَاسِمِ للعَمَلِ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَمَوْسِمٌ مِنَ المَوَاسِمِ لِمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَلِمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ تعالى ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.

روى الإمام البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟».

قَالُوا: وَلَا الجِهَادُ؟

قَالَ: «وَلَا الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ».

الإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَقْدَسِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَقْدَس الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، الإِصْلَاحُ بَيْنَ المُتَخَاصِمِينَ، بَيْنَ المُتَنَازِعِينَ المُتَدَابِرِينَ، الإِصْلَاحُ بَيْنَ الإِخْوَةِ المُتَقَاتِلِينَ، لِأَنَّ الطَّرَفيْنِ قَدْ خَسِرَا الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، وَخَسِرَا الدِّينَ، وَأَرْضَيَا بِتَخَاصُمِهِمَا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ، وَصَدَقَ فِيهِمَا قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾. أَوْقَعَ بَيْنَهُمَا، وَسَخِرَ مِنْهُمَا عَدُوُّهُمْ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ مُهِمَّةُ الذينَ شَرُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَصَفَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَعَظُمَ إِيمَانُهُم بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، وَكَمُلَ يَقِينُهُمْ.

مُهِمَّةُ أَصْحَابِ الذَّوْقِ السَّلِيمِ، وَالطِّبَاعِ المُسْتَقِيمَةِ، مُهِمَّةُ أَصْحَابِ الضَّمَائِرِ الحَيَّةِ.

مُهِمَّةُ أَصْحَابِ النُّبْلِ، الذينَ يَكْرَهُونَ الشَّرَّ، وَيُصْلِحُونَ الخِلَافَ وَالتَّبَاغُضَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.

مُهِمَّةُ الرِّجَالِ الذينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، لِإِبْطَالِ عَمَلِ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ، وَلِإِحْبَاطِ كَيْدِ الكَائِدِينَ الخَائِنِينَ.

مُهِمَّةُ الذينَ يُحِبُّونَ الأُلْفَةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَكْرَهُونَ الفُرْقَةَ وَالفِتَنَ وَالشُّرُورَ.

مُهِمَّةُ الذينَ يَعْمَلُونَ عَلَى حَقْنِ الدِّمَاءِ، وَصِيَانَةِ الأَنْفُسِ، وَحِفْظِ الأَمْوَالِ، وَتَأْلِيفِ القُلُوبِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: هَؤُلَاءِ كَالمَاءِ، الذينَ يُطْفِئُ النَّارَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَفْحِلَ شَرُّهَا، هَؤُلَاءِ كَالنُّورِ، الذي يُبَدِّدُ الظَّلَامَ قَبْلَ أَنْ يَعُمَّ، هَؤُلَاءِ هُمُ الذينَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمُ اللهُ أَجْرًا عَظِيمًا، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: رَبُّنَا جَلَّ جَلالُهُ يُنَادِينَا مِنْ قُدْسِهِ الأَعْلَى بِقَوْلِهِ: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾.

وَكَذَلِكَ يُنَادِينَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «الْـمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْـمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رواه الإمام مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: جَمِيعُ مَشَاكِلِنَا وَمَشَاكِلِ العَالِمِ اليَوْمَ تَكْمُنُ في إِهْمَالِ هَذَا المَبْدَأِ القَوِيمِ، الذي عَاشَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ البِعْثَةِ وَبَعْدَ البِعْثَةِ.

فَمَا اشْتَدَّتِ الفِتَنُ، وَلَا اشْتَعَلَتِ الحُرُوبُ، وَلَا أُرِيقَتِ الدِّمَاءُ، وَلَا أُزْهِقَتِ الأَنْفُسُ، وَلَا بُدِّدَتِ الأَمْوَالُ، وَلَا قُطِّعَتِ الأَرْحَامُ، وَلَا خُرِّبَتِ البُيُوتُ، وَلَا شُرِّدَ الأَطْفَالُ، وَلَا مُزِّقَتِ الجَمَاعَاتُ، إِلَّا بِسَبَبِ إِهْمَالِنَا الصُّلْحَ والتَّوْفِيقَ بَيْنَ المُتَخَاصِمِينَ، وَبِتَرْكِنَا الشَّرَّ يَنـْتَشِرُ حَتَّى عَمَّ القَرِيبَ والبَعِيدَ، وَقَـضَى عَلَى الأَخْضَرِ واليَابِسِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ نَفْعَلَهُ في هَذِهِ الأَزْمَةِ، إِنْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى الإِصْلاحِ، أَنْ نَلْتَزِمَ قَوْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ» رواه الشيخان عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.

فَيَا مَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، أَصْلِحْ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا تُفْسِدْ، وَفَرِّجِ الكَرْبَ عَن المَكْرُوبِينَ بِالإِصْلاحِ، وَاحْقِنِ الدِّمَاءَ بِالإِصْلاحِ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الإِصْلاحِ، فَأَمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فَإِمْسَاكُكَ عَنِ الـشَّرِّ صَدَقَةٌ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا صَالِحِينَ مُصْلِحِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 29/ ذو القعدة /1442هـ، الموافق: 9/تموز / 2021م

 2021-07-08
 4858
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

01-06-2023 381 مشاهدة
872ـ خطبة الجمعة: سلامة الصدر مطلب شرعي

أَقُولُ لِنَفْسِي، وَلِكُلِّ مَنْ أَرَادَ حُسْنَ الخَاتِمَةِ: يَا مُرِيدَ حُسْنِ الخَاتِمَةِ، كُنْ حَرِيصًا عَلَى سَلَامَةِ صَدْرِكَ وَطَهَارَةِ قَلْبِكَ مِنَ الغِلِّ وَالحِقْدِ وَالحَسَدِ وَالبَغْضَاءِ، وَتَذَكَّرْ صِفَةَ الرِّجَالِ الأَطْهَارِ ... المزيد

 01-06-2023
 
 381
25-05-2023 845 مشاهدة
871ـ خطبة الجمعة: صفاء السريرة سبب لحسن الخاتمة

حُسْنُ الخَاتِمَةِ أَقْصَى مَا يَتَمَنَّاهُ العَبْدُ المُؤْمِنُ، لِأَنَّ الأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا، فَمَنْ أُكْرِمَ بِحُسْنِ الخَاتِمَةِ لَا يَضُرُّهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَنْ حُرِمَ حُسْنَ الخَاتِمَةِ لَنْ يَنْفَعَهُ شَيْءٌ وَلَو ... المزيد

 25-05-2023
 
 845
18-05-2023 1135 مشاهدة
870ـ خطبة الجمعة: حسن السيرة سبب لحسن الخاتمة

مَنْ مِنَّا لَا يَتَمَنَّى حُسْنَ الخَاتِمَةِ؟ وَكُلُّنَا يَعْلَمُ أَنَّ الأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا، يَقُولُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ ... المزيد

 18-05-2023
 
 1135
11-05-2023 1647 مشاهدة
869ـ خطبة الجمعة: لنا موعد لن نخلفه أبدًا

هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا مَهْمَا طَالَتْ فَهِيَ قَصِيرَةٌ، وَأَنَّ لَنَا مَوْعِدًا لَنْ نُخْلَفَهُ أَبَدًا؟ أَلَمْ يَخْطُرْ في بَالِنَا يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ أَنْ نَذْهَبَ في زِيَارَةٍ قَصِيرَةٍ إلى تِلْكَ الدُّورِ التي ... المزيد

 11-05-2023
 
 1647
04-05-2023 1846 مشاهدة
868ـ خطبة الجمعة: أسباب حسن الخاتمة وعلاماتها

إِنَّ شَرَّ مَا بُلِيَتْ بِهِ النُّفُوسُ الغَفْلَةُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾. وَبِسَبَبِ الغَفْلَةِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَرَّطَ ... المزيد

 04-05-2023
 
 1846
28-04-2023 2146 مشاهدة
867ـ خطبة الجمعة: يا عبد الله لا تكن من الغافلين

الحَيَاةُ الدُّنْيَا دَارُ لَهْوٍ وَلَعِبٍ، وَدَارُ اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ، وَدَارُ مَمَرٍّ لَا مَقَرٍّ، وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ ... المزيد

 28-04-2023
 
 2146

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5593
المقالات 3079
المكتبة الصوتية 4571
الكتب والمؤلفات 19
الزوار 410665458
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2023 
برمجة وتطوير :