803ـ خطبة الجمعة: الحمد لله تعالى على نعمة الموت
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِيَّايَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ نَغْتَرَّ بِهَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ، وَتَأَهَّبُوا لِمَا أَنْتُمْ قَادِمُونَ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، أَلَا وَهُوَ المَوْتُ، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾.
المَوْتُ حَتْمٌ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ الخَلَائِقِ، فَفِي كُلِّ يَوْمٍ نُشَاهِدُ أَو نَسْمَعُ بِمَوْتِ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، ظَالِمٍ وَمْظْلُومٍ، طَائِعٍ وَعَاصٍ، مَلِكٍ وَمَمْلُوكٍ، سَيِّدٍ وَمَسُودٍ؛ فَإلى مَتَى الاغْتِرَارُ بِزَخَارِفِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؟ وَمَتَى سَيَنْتَهِي ظُلْمُنَا لِأَنْفُسِنَا وَلِغَيْرِنَا؟ إِذَا لَمْ نَتُبْ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ فَمَتَى سَوْفَ نَتُوبُ؟
تَصَوَّرْ نَفْسَكَ أَنَّكَ ذَاكَ المَيَّتُ:
يَا عِبَادَ اللهِ: المَوْتُ يَتَخَطَّانَا وَيَأْخُذُ غَيْرَنَا، وَسَيَأْتِي يَوْمٌ يَتَخَطَّى غَيْرَنَا لِيَأْخُذَنَا، وَهَذَا مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، فَإِذَا جَاءَ المَوْتُ وَحُمِلَ الوَاحِدُ مِنَّا في نَعْشِهِ فَهُوَ مِنْ أَيِّ الفَرِيقَيْنِ؟
رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصَعِقَ».
يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَظَلَمَ غَيْرَهُ، وَجَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، بِاللهِ عَلَيْكَ هَلْ تَتَوَقَّعُ أَنْ تَقُولَ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي؟
أَمْ يَقُولُ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟
بِاللهِ عَلَيْكَ يَا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَظَلَمْ غَيْرَهُ، تُبْ إلى اللهِ تعالى قَبْلَ حُلُولِ الأَجَلِ، وَاللهِ إِنِّي لَكَ نَاصِحٌ أَمِينٌ، وَإِلَّا فَوَاللهِ سَوْفَ تَنْدَمُ وَلَنْ يَنْفَعَكَ النَّدَمُ، وَأَنَا وَاللهِ لَا أُرِيدُكَ أَنْ تَكُونَ نَادِمًا، تَذَكَّرْ يَا عَبْدَ اللهِ، يَا مَنْ فَرَّطْتَ في جَنْبِ اللهِ تعالى، يَا مَنْ عِثْتَ في الأَرْضِ فَسَادًا، يَا مَنْ هَتَكْتَ الأَعْرَاضَ وَأَكَلْتَ الأَمْوَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَظَلَمْتَ النَّاسَ وَأَنْتَ لَا تُبَالِي، تَذَكَّرْ أَنَّ الأَرْضَ سَتَشْهَدُ عَلَيْكَ، قَالَ تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾.
وَتَذَكَرْ أَنَّ أَعْضَاءَكَ سَتَشْهَدُ عَلَيْكَ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
يَا عَبْدَ اللهِ، أَرْجُوكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
تَذَكَّرْ ـ يَا مَنْ ظَلَمْتَ النَّاسَ ـ أَرْضَ المَحْشَرِ وَأَنْتَ تَفِرُّ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْكَ: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.
بَلْ تَوَدُّ أَنَّكَ لَو تَفْتَدِي نَفْسَكَ بِذُرِّيَّتِكَ وَبِمَنْ في الأَرْضِ جَمِيعًا لِتَنْجُوَ مِنْ عَذَابِ اللهِ تعالى ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾.
وَوَاللهِ إِنْ لَمْ تَتُبْ فَسَوْف تَنْدَمُ وَلَنْ يَنْفَعَكَ النَّدَمُ، فَأَهْوَالُ يَوْمِ القِيَامَةِ عَظِيمَةٌ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: المَوْتُ أَكْبَرُ وَاعِظٍ للجَمِيعِ، وَأَعْظَمُ دَوَاءٍ نَاجِعٍ لِمَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ، وَالحَمْدُ للهِ تعالى عَلَى نِعْمَةِ المَوْتِ، وَنِعْمَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾.
وَيَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنِ اتَّقَى اللهَ لَمْ يَشِفِ غَيْظَهُ، وَمَنْ خَافَ اللهَ لَمْ يَفْعَلْ مَا يرِيدُ، وَلَوْلَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَكَانَ غَيْرَ مَا تَرَوْنَ.
فَيَوْمُ القِيَامَةِ الذي نَحْنُ عَلَى مَوْعِدٍ مَعَهُ هُوَ الشِّفَاءُ.
اللَّهُمَّ اْجَعْلَ مَوْتَنَا رَاحَةً لَنَا لَا رَاحَةً مِنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 23/ رجب /1443هـ، الموافق: 25/ شباط / 2022م
أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد
لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد
لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد
لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ ... المزيد