133ـ كلمات في مناسبات: لماذا الاستغراب من حادثة الإسراء والمعراج

133ـ كلمات في مناسبات: لماذا الاستغراب من حادثة الإسراء والمعراج

133ـ كلمات في مناسبات: لماذا الاستغراب من حادثة الإسراء والمعراج

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

سَوْفَ نَذْكُرُ فَائِدَتَيْنِ مِنْ فَوَائِدِ ذِكْرَى الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ:

أَمَّا الفَائِدَةُ الأُولَى مِنْ ذِكْرَى الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ:

فَهِيَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مُطْلَقَةٌ لَا حَدَّ لَهَا، فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾.

وَقَالَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.

وَمَنْ عَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَمْ يَخَفْ إِلَّا اللهَ تعالى، وَلَمْ يَسْتَغْرِبْ شَيْئًا مِنْ قُدْرَةِ اللهِ تعالى.

وَمِنْ صُوَرِ قُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ أَسْرَى بِحَبِيبِنَا المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى إلى السَّمَاوَاتِ العُلَى.

هَلِ الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ كَانَ بِالرُّوحِ وَالجَسَدِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هُنَاكَ مَنْ يَسْتَغْرِبُ مِنْ هَذَا الحَدَثِ وَيَتَسَاءَلُ: هَلْ كَانَ الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رُوحًا وَجَسَدًا أَمْ بِالرُّوحِ فَقَطْ؟

مَنْ تَدَبَّرَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ وَوَقَفَ عِنْدَ كَلِمَةِ ﴿عَبْدِهِ﴾ عَرَفَ أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ رُوحًا وَجَسَدًا، لِأَنَّ كَلِمَةَ العَبْدِ لَا تُطْلَقُ عَلَى جَسَدٍ بِدُونِ رُوحٍ وَلَا رُوحٍ بِدُونِ جَسَدٍ، بَلْ تُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ وَالجَسَدِ مُجْتَمِعَيْنِ.

وَلَوْ كَانَ حَدَثُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ بِالرُّوحِ فَقَطْ دُونَ الجَسَدِ لَمَا كَانَ لَهُ تَكْذِيبٌ عِنْدَ المُشْرِكِينَ، أَنْكَرُوا هَذَا لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الحَدَثَ كَانَ رُوحًا وَجَسَدًا، لِذَلِكَ قَالُوا: وَنَحْنُ نَضْرِبُ أَكْبَادَ الإِبِلِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ مَصْعَدًا شَهْرًا وَمُنْحَدَرًا شَهْرًا تَزْعُمُ أَنَّكَ أَتَيْتَهُ في لَيْلَةٍ، وَاللَّاتِ وَالعُزَّى لَا نُصَدِّقُكَ، وَمَا كَانَ هَذَا الذي تَقُولُ قَطُّ.

لِمَاذَا هَذَا الاسْتِغْرَابُ؟

وَأَنَا أَقُولُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِمَاذَا يَسْتَغْرِبُ البَعْضُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ رُوحًا وَجَسَدًا؟

أَلَيْسَتْ قُدْرَةُ اللهِ مُطْلَقَةً؟ أَلَيْسَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا؟ أَلَيْسَ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؟ فَلِمَاذَا الاسْتِغْرَابُ؟

مَنِ الذي أَنْزَلَ سَيِّدَنَا آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ؟ أَلَيْسَ هُوَ القَائِلَ: ﴿قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا﴾؟

وَمَنِ الذي رَفَعَ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الأَرْضِ إلى السَّمَاءِ؟ أَلَيْسَ هُوَ القَائِلَ: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾؟

فَالذي أَنْزَلَ سَيِّدَنَا آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ هُوَ الذي أَسْرَى بِحَبِيبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إلى السَّمَاوَاتِ العُلَى، وَالذي رَفَعَ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الأَرْضِ إلى السَّمَاءِ رُوحًا وَجَسَدًا وَمَا زَالَ حَيًّا هُوَ الذي أَكْرَمَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمُعْجِزَتَيِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ.

فَهَلْ يَشُكُّ المُسْلِمُ أَنَّ اللهَ تعالى رَفَعَ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُوحًا وَجَسَدًا إلى السَّمَاءِ؟ فَإِذَا كَانَ لَا يَشُكُّ في ذَلِكَ، فَلِمَاذَا يَشُكُّ في هَذِهِ المُعْجِزَةِ؟

بَلْ أَقُولُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَنَا أَسْتَغْرِبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ حَدَثَ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ بِالرُّوحِ وَالجَسَدِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِقُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ مُصَدِّقٌ أَنَّ الذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَتَى بِعَرْشِ بَلْقِيسَ مِنَ اليَمَنِ إلى فِلَسْطِينَ بِأَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ.

اسْمَعْ أَيُّهَا المُؤْمِنُ مَا يَقُولُهُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ عَنْ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عِنْدَمَا عَلِمَ أَنَّ بَلْقِيسَ وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ تعالى: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِين * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِين * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾.

بِاللهِ عَلَيْكَ أَيُّهَا المُؤْمِنُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ قُدْرَةَ المَوْهُوبِ بِأَنْ يَأْتِيَ بْعَرْشِ بَلْقِيسَ مِنَ اليَمَنِ إلى فِلَسْطِينَ بِأَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَكَيْفَ بِقُدْرَةِ الوَاهِبِ الأَعْلَى جَلَّتْ قُدْرَتُهُ؟

فَأَيْنَ تَكْمُنُ الغَرَابَةُ في إِسْرَاءِ وَمِعْرَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالرُّوحِ وَالجَسَدِ؟

الفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ حَادِثَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا عَرَفْنَا أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مُطْلَقَةٌ، وَأَنَّهُ تعالى لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ وَنَحْنُ نَعِيشُ في دُنْيَا الابْتِلَاءِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾. وَقَالَ أَيْضًا: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾. هَذَا الابْتِلَاءُ يَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ، وَيَتَطَلَّعُ العَبْدُ إلى الخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ الابْتِلَاءَاتِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الفِتَنِ.

فَإِذَا رُسِّخَتِ العَقِيدَةُ في النُّفُوسِ فَإِنَّ الشَّدَائِدَ وَالمِحَنَ مَهْمَا اشْتَدَّتْ فَإِنَّ المُؤْمِنَ يَتَطَلَّعُ إلى الفَرَجِ العَاجِلِ القَرِيبِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَأْتِي بِالفَرَجِ مِنْ قَلْبِ الضِّيقِ، وَبِاليُسْرِ مِنْ قَلْبِ العُسْرِ، وَبِالنُّورِ مِنْ قَلْبِ الظَّلَامِ.

المُؤْمِنُ يَتَقَلَّبُ بَيْنَ عُسْرٍ وَيُسْرٍ وَشِدَّةٍ وَرَخَاءٍ، فَإِذَا مَا اشْتَدَّ البَلَاءُ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى فَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ رَبًّا لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ.

وَانْظُرْ إلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ.

اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَوَّلُ البَلَاءِ مِنْ قَوْلِ عَمِّهِ أَبِي لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟

إِلَى يَوْمِ الطائف، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ أُمُّنَا السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ الكُبْرَى رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَالتي كَانَتْ السَّكَنَ لَهُ، وَمَاتَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ الذي كَانَ الحَامِيَ لَهُ مِنْ حَيْثُ السَّبَبُ، بَعْدَ مَوْتِهِمَا خَرَجَ إلى الطَّائِفِ لِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَاجْتَمَعَ مَعَ سَادَةِ ثَقِيفٍ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الأَوَّلُ: هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللهُ أَرْسَلَكَ.

وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللهُ أَحَدًا أَرْسَلَهُ غَيْرَكَ؟

وَقَالَ الثَّالِثُ: وَاللهِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا؛ لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللهِ كَمَا تَقُولُ، لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الْكَلَامَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللهِ، مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ.

فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ: «إِنْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ، فَاكْتُمُوا عَلَيَّ» كذا في البداية والنهاية.

فَأَقَامَ بِالطَّائِفِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَقِيلَ شَهْرًا لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ إِلَّا جَاءَ إِلَيْهِ وَكَلَّمَهُ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَخَافُوا عَلَى أَحْدَاثِهِمْ مِنْهُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، اخْرُجْ مِنْ بَلَدنَا.

وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ يَسُبُّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ.

قَالَ ابْنُ عُقْبَةَ: وَقَفُوا لَهُ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ جَعَلَ لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُمَا إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْا رِجْلَيْهِ.

شِدَّةٌ مَا بَعْدَهَا شِدَّةٌ، وَلَكِنْ مَا دَامَ الرَّبُّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا فَلَا يَأْسَ وَلَا قُنُوطَ، فَالتْجَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى رَبِّهِ بِالدُّعَاءِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أن يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ، أَوْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في الدُّعَاءِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

بَعْدَ هَذَا الضِّيقِ جَاءَ الفَرَجُ، وَجَاءَتِ المِنَحُ بَعْدَ المِحَنِ.

المِنْحَةُ الأُولَى: سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَعَهُ مَلَكُ الجِبَالِ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ».

قَالَ: «فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ».

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهَ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

المِنْحَةُ الثَّانِيَةُ: عَدَّاسٌ، جَاءَ في كِتَابِ الرَّوْضِ الأُنُفِ: فَلَمَّا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَمَا لَقِيَ تَحَرّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا، فَدَعَوْا غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَانِيًّا، يُقَالُ لَهُ: عَدَّاسٌ.

فَقَالَا لَهُ: خُذْ قِطْفًا مِنْ هَذَا الْعِنَبِ فَضَعْهُ فِي هَذَا الطَّبَقِ، ثُمَّ اذْهَبْ بِهِ إلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ.

فَفَعَلَ عَدَّاسٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُلْ.

فَلَمَّا وَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فِيهِ يَدَهُ قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ» ثُمَّ أَكَلَ.

فَنَظَرَ عَدَّاسٌ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: واللهِ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ، وَمَا دِينُكَ؟»

قَالَ: نَصْرَانِيٌّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى».

فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ بْنُ مَتَّى؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيَّا وَأَنَا نَبِيٌّ».

فَأَكَبَّ عَدَّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُقَبُّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ.

قَالَ: يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمَّا غُلَامُكَ فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْكَ.

فَلَمَّا جَاءَهُمَا عَدَّاسٌ قَالَا لَهُ: وَيْلَكَ يَا عَدَّاسُ، مَالَكَ تُقَبِّلُ رَأْسَ هَذَا الرَّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ؟

قَالَ: يَا سَيِّدِي، مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرِ مَا يَعْلَمُهُ إلا نَبِيٌّ.

قَالَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ، لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ، فَإِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: خُذُوا هَاتَيْنِ الفَائِدَتَيْنِ وَأَنْتُمْ تَعِيشُونَ هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا، قَابِلُوا شَدَائِدَ الدُّنْيَا بِعَقِيدَةٍ رَاسِخَةٍ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِانْتِظَارِ الفَرَجِ القَرِيبِ وَقُولُوا: لَا كَرْبَ وَأَنْتَ رَبٌّ.

اللَّهُمَّ فَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 26/ رجب /1443هـ، الموافق: 28/ شباط / 2022م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمات في مناسبات

09-04-2024 120 مشاهدة
142ـ كلمات في مناسبات: فجر عيد الفطر 1445 هـ

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: دَخَلْنَا شَهْرَ رَمَضَانَ المُبَارَكَ، دَخَلْنَا هَذَ المَوْسِمَ العَظِيمَ، حَيْثُ مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً، ... المزيد

 09-04-2024
 
 120
28-09-2023 695 مشاهدة
141ـ كلمات في مناسبات: عذرًا يا سيدي يا رسول الله

لقد كُنتَ حَرِيصَاً عَلَينَا أَشَدَّ الحِرْصِ، بِشَهَادَةِ مَولانَا عزَّ وجلَّ القَائِلِ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾. وبِشَهَادَتِكُم عِندَمَا ... المزيد

 28-09-2023
 
 695
07-03-2023 696 مشاهدة
140ـ كلمات في مناسبات: إجابة الدعاء معلقة بالاستجابة لله تعالى

عِنْدَمَا تَنْزِلُ المِحَنُ، وَتَشْتَدُّ الخُطُوبُ، وَتَتَوَالَى الكُرُوبُ، وَتَعْظُمُ الرَّزَايَا، وَتَتَابَعُ الشَّدَائِدُ، لَنْ يَكُونَ أَمَامَ المُسْلِمِ إِلَّا أَنْ يَلْجَأَ إلى اللهِ تعالى وَيَلُوذَ بِجَانِبِهِ، وَيَضْرَعَ إِلَيْهِ ... المزيد

 07-03-2023
 
 696
28-09-2022 649 مشاهدة
1- المحبة محبتان

مَعَ بِدَايَةِ شَهْر رَبِيعٍ الأَوَّلِ، أُهَنِّئُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَنْ جَعَلَنَا اللهُ تعالى حَظَّهُ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ، ... المزيد

 28-09-2022
 
 649
09-07-2022 545 مشاهدة
138ـ كلمات في مناسبات: درس فجر عيد الأضحى المبارك 1443 هـ شعيرة الأضحية

هَذَا اليَوْمُ هُوَ خِتَامُ الأَيَّامِ العَشْرِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُرْطٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ ... المزيد

 09-07-2022
 
 545
08-07-2022 477 مشاهدة
137ـ كلمات في مناسبات: يوم عرفة يوم الغفران

يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمٌ أَكْمَلَ اللهُ تعالى فِيهِ الدِّينَ، قَالَ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمُ الغُفْرَانِ، وَالعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، ... المزيد

 08-07-2022
 
 477

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3161
المكتبة الصوتية 4797
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414154168
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :