804ـ خطبة الجمعة: شهر شعبان شهر الصيام والقرآن

804ـ خطبة الجمعة: شهر شعبان شهر الصيام والقرآن

804ـ خطبة الجمعة: شهر شعبان شهر الصيام والقرآن

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَا نَحْنُ في أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فَإِنَّ للهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ يُبَيِّنُ أَمْرَيْنِ مُهِمَّيْنِ، يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَنَبَّهَ إِلَيْهِمَا.

الأَوَّلُ: التَّحَيُّنُ للأَوْقَاتِ المُبَارَكَةِ وَالأَزْمِنَةِ الفَاضِلَةِ، فَاللهُ تَبَارَكَ وتعالى اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ أَشْخَاصًا، وَأَزْمَانًا، وَأَمْكِنَةً جَعَلَ لَهَا مِنَ الفَضْلِ وَالمَزَايَا مَا قَدْ يَكُونُ لَهَا دُونَ غَيْرِهَا.

الثَّانِي: أَنْ يُحَافِظَ العَبْدُ عَلَى دُعَاءٍ يَكُونُ فِيهِ نَجَاتُهُ، وَتَكُونُ فِيهِ حِمَايَتُهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ «وَسَلُوا اللهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ».

فَنَسْأَلُ اللهَ تعالى العَظِيمَ، جَلَّ في عُلَاهُ، أَنْ يَسْتُرَ مِنَّا العَوْرَاتِ، وَأَنْ يُؤَمِّنَنَا في الرَّوْعَاتِ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالقَادِرُ عَلَيْهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ هَذِهِ الأَزْمِنَةِ المُبَارَكَةِ، وَهَذِهِ النَّفَحَاتِ الطَّيِّبَةِ التي اخْتَصَّ اللهُ تعالى بِهَا بَعْضَ الزَّمَانِ هَذَا الشَّهْرَ المُبَارَكَ؛ فَهَا نَحْنُ في غُرَّةِ شَعْبَانَ.

شَهْرُ شَعْبَانَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ الْأَيَّامَ يَسْرُدُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ الْأَيَّامَ حَتَّى لَا يَكَادَ أَنْ يَصُومَ إِلَّا يَوْمَيْنِ مِنَ الْجُمُعَةِ، إِنْ كَانَ فِي صِيَامِهِ، وَإِلَّا صَامَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ.

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تَصُومُ لَا تَكَادُ أَنْ تُفْطِرَ، وَتُفْطِرُ حَتَّى لَا تَكَادَ أَنْ تَصُومَ إِلَّا يَوْمَيْنِ إِنْ دَخَلَا فِي صِيَامِكَ وَإِلَّا صُمْتَهُمَا.

قَالَ: «أَيُّ يَوْمَيْنِ؟».

قَالَ: قُلْتُ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمُ الْخَمِيسِ.

قَالَ: «ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».

قَالَ: قُلْتُ: وَلَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ.

قَالَ: «ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».

لَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ غَفْلَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ عَنْ صِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ، وَعَمَّا فِيهِ مِنْ فَضَائِلَ، وَعَمَّا فِيهِ مِنْ مَزَايَا وَخَصَائِصَ؛ فِيهِ لَيْلَةُ النِّصْفِ التي يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا عَلَى خَلْقِهِ فَيَغْفِرُ فِيهَا لَهُمْ جَمِيعًا، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَو مُشَاحِنٍ.

وَقَدْ كَانَ سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ يُسَمُّونَ شَهْرَ شَعْبَانَ شَهْرَ القُرَّاءِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا اسْتِعْدَادًا وَتَهْيِئَةً للنُّفُوسِ، وَاسْتِعْدَادً للجَوَارِحِ وَالأَبْدَانِ، حَتَّى تَسْتَقْبِلَ شَهْرَ رَمَضَانَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.

إِنَّ مُعْظَمَ النَّاسِ في هَذَا الزَّمَانِ يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ في فَرَحٍ بِزِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَفْرَحُ بِمَسْكَنٍ، وَبِسَيَّارَةٍ، وَبِرَبْحٍ في تِجَارَةٍ، وَبِسَفَرٍ في نُزْهَةٍ، أَو بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْ حُطَامِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ وَالقَلِيلُ مَنْ يَفْرَحُ حِينَ يَقْتَرِبُ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ التَّوْبَةِ وَالغُفْرَانِ ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

لِنَعْرِضْ عَلَى قُلُوبِنَا أَصْنَافَ الشَّهَوَاتِ وَالمَلَذَّاتِ، فَإِنْ كَانَ حُبُّنَا لَهَا أَعْظَمَ مِنْ حُبِّنَا للطَّاعَاتِ وَالعِبَادَاتِ فَلْنَحْذَرِ الفِتْنَةَ وَالنِّهَايَةَ الأَلِيمَةَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَلُمُّوا لِنَتَفَقَّدَ قُلُوبَنَا التي هِيَ مَحَلَّ نَظَرِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، وَلِنَتَفَقَّدَ أَلْسِنَتَنَا وَجَوَارِحَنَا، فَإِنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالقَلْبِ وَالجَنَانِ، وَعَمَلٌ بِالجَوَارِحِ وَالأَرْكَانِ، يَزِيدُ بِطَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَيَنْقُصُ بِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ، فَلْنَحْذَرْ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ القَائِلِ: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾.

زِيَادَةُ الطَّاعَاتِ زِيَادَةٌ في الإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَكُلَّمَا أَنْقَصَ العَبْدُ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ أَنْقَصَ إِيمَانَهُ؛ وَنَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى الإِيمَانِ الذي يَجْعَلُ القَلْبَ مُطْمئِنًّا مُرْتَاحًا، وَخَاصَّةً في الأَزَمَاتِ.

فَأَيَّامُ الأَزَمَاتِ أَيَّامٌ يَحْتَاجُ فٍيهَا العَبْدُ إلى كَثْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَإِلَّا كَانَتْ حَيَاتُهُ شَقَاءً وَهَمًّا وَضَنْكًا وَحُزْنًا وَكَمَدًا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِتِلَاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ وَالعَمَلِ بِهِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 1/شعبان /1443هـ، الموافق: 4/ آذار / 2022م

 2022-03-04
 3506
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

26-04-2024 17 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 17
19-04-2024 229 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 229
12-04-2024 932 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 932
09-04-2024 606 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 606
04-04-2024 711 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 711
28-03-2024 641 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 641

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3161
المكتبة الصوتية 4797
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413913219
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :