848ـ خطبة الجمعة: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: فَرْقٌ كَبِيرٌ بَيْنَ مَنْ يَصْحَبُ المُجْتَمَعَ، وَبَيْنَ مَنْ يَصْحَبُهُ المُجْتَمَعُ، فَمَنْ صَاحَبَ المُجْتَمَعَ يَكُونُ مُحَافِظًا عَلَى شَخْصِيَّتِهِ السُّلُوكِيَّةِ وَالأَخْلَاقِيَّةِ، وَيَكُونُ مُؤَثِّرًا لَا مُتَأَثِّرًا.
أَمَّا مَنْ صَحِبَهُ المُجْتَمَعُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنْصَهِرًا فِيهِ وَفي أَطْيَافِهِ المُتَشَاكِسَةِ، وَيَنْسَى شَخْصِيَّتَهُ المُسْتَقِلَّةَ، تَرَاهُ مُتَقَلِّبًا بَيْنَ الحِينِ وَالآخَرِ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَ، وَإِنْ أَسَاؤُوا أَسَاءَ، إِنْ قَالُوا: آمَنَّا بِاللهِ آمَنَ، وَإِنْ سَلَكُوا طَرِيقَ النِّفَاقِ وَالتَّقْلِيدِ لِغَيْرِ المُسْلِمِينَ سَلَكَ الطَّرِيقَ مَعَهُمْ.
مَنْ صَحِبَهُ المُجْتَمَعُ كَانَ مُتَخَلِّيًا عَنْ ذَاتِهِ المُمَيَّزَةِ، وَكَانَ مُتَأَثِّرًا لَا مُؤَثِّرًا، وَيَخْرُجُ عَنْ طِبَاعِهِ العَقْلِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَأَفْسَدَ سُلُوكَهُ.
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾:
يَا عِبَادَ اللهِ: شَارَفَ عَامٌ مِيلَادِيٌّ عَلَى النِّهَايَةِ، لِيَسْتَقْبِلَ النَّاسُ عَامًا مِيلَادِيًّا جَدِيدًا، وَنَسِيَ الجَمِيعُ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى أَنَّ نِهَايَةَ عَامٍ يَعْنِي الاقْتِرَابَ مِنْ نِهَايَةِ الأَجَلِ للدُّخُولِ في عَالَمِ البَرْزَخِ، نَسِيَ الجَمِيعُ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى أَنَّهُ كَمَا انْتَهَى عَامٌ فَسَوْفَ تَنْتَهِي حَيَاتُهُمْ، وَكَمَا يَسْتَقْبِلُونَ عَامًا جَدِيدًا فَسَوْفَ يَسْتَقْبِلُونَ بَعْدَ نِهَايَةِ أَجَلِهِمْ عَالَمًا جَدِيدًا فِيهِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، مِنْ نَعِيمٍ مِنْ نِعَمِ الجَنَّةِ، أَو مِنْ عَذَابٍ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، يَسْتَقْبِلُونَ عَالَمَ البَرْزَخِ لِتَرَى الوَاحِدَ مِنْهُمْ يَقُولُ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾. وَآخَرُ يَقُولُ: وَاطَرَبَاهُ غَدًا أَلْقَى الأَحِبَّةَ، سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَحْبَهُ، يَسْتَقْبِلُونَ عَالَمًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، أَو حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: هَا أَنْتُمْ تُوَدِّعُونَ عَامًا مِيلَادِيًّا وَتَسْتَقْبِلُونَ عَامًا جَدِيدًا، هَلُمُّوا لِتَسْمَعُوا قَوْلَ رَبِّكُمْ: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
قَرِّرِ الوِجْهَةَ التي تُرِيدُ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ هُوَ الذي يَتَوَلَّى الجِهَةَ التي يُرِيدُ، إِمَّا أَنْ يَسْتَبِقَ الخَيْرَاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَبِقَ المُعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ وَالمُخَالَفَاتِ، إِمَّا أَنْ يُعَمِّرَ آخِرَتَهُ بِطَاعَةِ اللهِ تعالى، وَإِمَّا أَنْ يَبِيعَ آخِرَتَهُ بِشَهْوَةِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الدُّنْيَا.
قَرِّرْ بِنَفْسِكَ الجِهَةَ التي تُرِيدُ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾. وَلَكِنْ تَذَكَّرْ أَنَّ الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، في أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ، يُوصِيكَ بِاسْتِبَاقِ الخَيْرَاتِ، لَا بِاسْتِبَاقِ المُنْكَرَاتِ، لِأَنَّهُ خَاطَبَ الجَمِيعَ بِقَوْلِهِ: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
لِمَاذَا يَأْتِي بِهِمْ جَمِيعًا؟ بَيَّنَ ذَلِكَ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾. وَبِقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: اسْمَعُوا وَصِيَّةَ رَبِّكُمْ قَبْلَ نِهَايَةِ آجَالِكُمْ، وَاسْتِقْبَالِ عَالَمِ البَرْزَخِ: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾. وَاحْذَرُوا تِلْكَ المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ التي يَسْتَعِدُّ النَّاسُ لَهَا، مِنْ قِمَارٍ وَفِسْقٍ وَفُجُورٍ وَغِنَاءٍ وَاخْتِلَاطٍ، وَسَمَاعٍ للدَّجَّالِينَ الكَذَّابِينَ المُنَجِّمِينَ عَلَى أَجْهِزَةِ الإِعْلَامِ، وَمَنْ صَدَّقَهُمْ فِيمَا قَالُوا فَقَدْ كَفَرَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ فِيمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رَوَاهُ الحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَاسْمَعُوا وَصِيَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلَا تَظْلِمُوا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَصَاحِبُوا المُجْتَمَعَ، وَكُونُوا مُؤَثِّرِينَ لَا مُتَأَثِّرِينَ، وَاحْذَرُوا أَنْ يَصْحَبَكُمُ المُجْتَمَعُ فَيَكُونَ الوَاحِدُ مِنْكُمْ إِمَّعَةً، لَا يَعْرِفُ نَفْسَهُ وَلَا هُوِيَّتَهُ، وَلَا يَعْرِفُ إلى أَيْنَ يَسِيرُ.
وَاحْذَرُوا أَنْ تُكْثِرُوا سَوَادَ قَوْمٍ فَاسِقِينَ، كَثِّرُوا سَوَادَ أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الآوِنَةِ التي نَعِيشُهَا، كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى الْتزَامِ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
اللَّهُمَّ نَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ جَمِيعِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَنَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 6/ جمادى الآخرة /1444هـ، الموافق: 30/ كانون الأول / 2022م
أَقْبَحُ وَصْفٍ فِي الإِنْسَانِ العُجْبُ وَالغُرُورُ بِمَا أَسْبَغَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ؛ وَالأَقْبَحُ مِنْهُ مَنْ ظَنَّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُغَيِّرُ مَا بِهِ وَلَو كَانَ مُقِيمًا عَلَى المَعْصِيَةِ؛ وَالأَقْبَحُ مِنْ ... المزيد
أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد
لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد
لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد
لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد