858ـ خطبة الجمعة: لا تكن ممن يقول: يا ليتني قدمت لحياتي
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾.
وَيَقُولُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
يَا عِبَادَ اللهِ: كَفَانَا غَفْلَةً عَنِ المَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، كَفَانَا غَفْلَةً عَنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾. كَفَانَا غَفْلَةً عَنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾. كَفَانَا غَفْلَةً عَنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾. كَفَانَا غَفْلَةً عَنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: لِيُفَكِّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مَاذَا قَدَّمَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ لِيَضَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا حَسَنَاتِهِ في كَفَّةٍ، وَسَيِّئَاتِهِ في كَفَّةٍ، ثُمَّ لْيَنْظُرْ أَيُّهُمَا تُرْجَحُ؟ وَلْيَقْرَأْ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾:
يَا عِبَادَ اللهِ: تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾. وَانْتَبِهُوا لِأَنْفُسِكُمْ قَبْلَ المَمَاتِ، مَنْ يَرْضَى أَنْ يَقُولَ هَذَا؟ لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَقُولُ: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾. وَأَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ لَا نَكُونَ مِمَّن يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَانَ مِمَّنْ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾.
وَأَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ لَا نَكُونَ مِمَّنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَانَ مِمَّنْ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾.
وَأَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ لَا نَكُونَ مِمَّنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَانَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا».
قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ.
قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ وَكَمْ مِنْ رِجَالٍ يَظْهَرُونَ أَمَامَ النَّاسِ رِجَالًا صَالِحِينَ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا مَعَ أَنْفُسِهِمْ تَقَصَّدُوا مَعْصِيَةَ اللهِ تعالى، مِنْ خِلَالِ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ، كَمْ وَكَمْ مِنْ رِجَالٍ يَظْهَرُونَ أَمَامَ النَّاسِ رِجَالًا صَالِحِينَ، وَلَكِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، عَنْ طَرِيقِ الغِشِّ وَالسَّرِقَاتِ، وَخَاصَّةً أَمْوَالَ اليَتَامَى وَالأَرَامِلِ وَالمَسَاكِينِ وَالفُقَرَاءِ وَالمَنْكُوبِينَ وَالمَرْضَى وَالمُحْتَاجِينَ.
أَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾. وَمِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾. وَمِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾؟
أَيُّنَا يَرْضَى أَنْ يَقُولَ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَمَا يَرَى جَهَنَّمَ، وَيَسْمَعُ زَفِيرَهَا: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾؟ بَلْ أَيُّنَا يَرْضَى أَنْ يَقُولَ عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾؟ بَلْ أَيُّنَا يَرْضَى أَنْ يَقُولَ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾؟ بَلْ أَيُّنَا يَرْضَى أَنْ يَقُولَ في أَرْضِ المَحْشَرِ: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾؟
أَيُّنَا يَرْضَى يَا شَبَابَ الأُمَّةِ وَيَا شَابَّاتِهَا، أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾؟ لَا يَعَضُّ عَلَى أُصْبُعِهِ وَلَا عَلَى يَدِهِ، بَلْ عَلَى يَدَيْهِ حَسْرَةً وَنَدَامَةً عِنْدَمَا تَرَكَ سَبِيلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: هَلُمُّوا نَنْظُرْ إلى أَعْمَالِنَا، وَنَحْنُ نَسْتَحْضِرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾. فَهَلْ أَعْمَالُنَا أَعْمَالُ الأَتْقِيَاءِ، حَيْثُ تَقُولُ النَّارُ للوَاحِدِ مِنَّا: «يَا مُؤْمِنُ جُزْ فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي» رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ.
أَمْ نَحْنُ مِنَ الظَّالِمِينَ الذينَ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾.
آكِلُ الرِّبَا ظَالِمٌ، مُرْتَكِبُ الفَاحِشَةِ ظَالِمٌ، آكِلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ظَالِمٌ، جَاعِلُ العَلَاقَةِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ النِّسَاءِ ظَالِمٌ ..... وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 18/ شعبان /1444هـ، الموافق: 10/ آذار / 2023م
ارسل إلى صديق |
كَمْ تُطْوَى اللَّيَالِي وَالأَيَّامُ، وَتَنْصَرِمُ الشُّهُورُ وَالأَعْوَامُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْضِي نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وإِذَا بَلَغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ، فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ. وَمَنْ ... المزيد
حَقِيقَةٌ قَاسِيَةٌ لَا مَحِيدَ عَنْهَا، وَقَضِيَّةٌ رَهِيبَةٌ مُسَلَّمٌ بِهَا لَا مَفَرَّ مِنْهَا، حَقِيقَةٌ تُوَاجِهُ النَّاسَ جَمِيعًا، وَلَا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ رَدَّهَا مَهْمَا كَانَ، حَقِيقَةٌ تَتَكَرَّرُ في كُلِّ لَحْظَةٍ، نُعَايِشُهَا ... المزيد
بَعْدَ أَيَّامٍ تُصَادِفُنَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، حَيْثُ يَتَعَرَّضُ فِيهَا المُسْلِمُونَ لِنَفَحَاتِ اللهِ تعالى، رَاجِينَ مِنَ اللهِ تعالى أَنْ يَشْمَلَهُمْ بِعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَأَنْ يُفِيضَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْوَارِهِ ... المزيد
مُنْذُ أَنْ خَلَقَ اللهُ تعالى خَلْقَهُ، وُجِدَ الصِّرَاعُ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَإِذَا كَانَتِ الحُرُوبُ وَالأَزَمَاتُ وَالكَوَارِثُ تَسْتَهْدِفُ الإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ جَسَدُهُ وَبِنَاؤُهُ، فَإِنَّ هُنَاكَ حَرْبًا سَافِرَةً مُسْتَتِرَةً ... المزيد
لَقَدْ رَتَّبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ السَّعَادَةَ وَالفَلَاحَ، وَالفَوْزَ في الدَّارَيْنِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ ... المزيد
يَقُولُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾. ... المزيد