862ـ خطبة الجمعة: العظات والعبر من غزوة بدر الكبرى

862ـ خطبة الجمعة: العظات والعبر من غزوة بدر الكبرى

862ـ خطبة الجمعة: العظات والعبر من غزوة بدر الكبرى

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ في سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَآثَارِهِ الجَلِيلَةِ النَّضِرَةِ، أُسْوَةً للمُؤْمِنِينَ، وَقُدْوَةً للأَخْيَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَلِمَنْ أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ.

سِيرَتُهُ العَطِرَةُ مُلِئَتْ عِلْمًا وَحِكْمَةً وَإِيمَانًا، وَثَبَاتًا وَصَبْرًا وَإِيقَانًا، مُلِئَتْ حِلْمًا وَرَحْمَةً وَفَضْلًا وَإِحْسَانًا وَأَخْلَاقًا، مَا تَرَكَتْ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الخَيْرِ إِلَّا دَلَّتْنَا عَلَيْهِ، وَلَا بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِّ إِلَّا حَذَّرَتْنَا مِنْهُ.

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى:

يَا عِبَادَ اللهِ: في مِثْلِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى، وَكَانَ يَوْمُ الفُرْقَانِ، يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ، وَكَانَ يَوْمَ عِزٍّ وَنَصْرٍ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، كَانَ يَوْمَ سَعَادَةٍ لِرِجَالٍ مَا تَجَاوَزَ عَدَدُهُمْ ثَلَاثَمِئَةً وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، كُتِبَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ وَهُمْ في بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَكَانُوا مُنْدَرِجِينَ تَحْتَ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾. وَنَادَاهُمْ مُنَادِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنْ هَذِهِ الغَزْوَةِ المُبَارَكَةِ مُفَصَّلَةً في رَمَضَانَ المَاضِي، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهَا فَلْيَرْجِعْ.

العِظَاتُ وَالعِبَرُ مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَّا اليَوْمَ فَسَوْفَ نَسْتَلْهِمُ بِإِذْنِ اللهِ تعالى بَعْضَ العِظَاتِ وَالعِبَرِ مِنْ هَذِهِ الغَزْوَةِ المُبَارَكَةِ:

أَوَّلًا: أَعْظَمُ العِظَاتِ وَالعِبَرِ وَأَجَلُّهَا، التي نَأْخُذُهَا مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى، أَنَّ كَلِمَةَ اللهِ هِيَ العُلْيَا، وَكَلِمَةَ الذينَ كَفَرُوا السُّفْلَى، وَأَنَّ هَذَا الإِسْلَامَ هُوَ الرِّسَالَةُ الخَالِدَةُ البَاقِيَةُ مَا بَقِيَ الزَّمَانُ، هَذِهِ الرِّسَالَةُ بَاقِيَةٌ حَتَّى يَرِثَ اللهُ تعالى الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، شَاءَ مَنْ شَاءَ، وَأَبَى مَنْ أَبَى، بَاقِيَةٌ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، وَبِذُلِّ ذَلِيلٍ.

ثَانِيًا: مِنْ أَعْظَمِ العِظَاتِ وَالعِبَرِ التي نَأْخُذُهَا مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى أَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا، وَأَنَّ العَاقِبَةَ للمُتَّقِينَ، تُعَلِّمُنَا تِلْكَ الغَزْوَةُ المُبَارَكَةُ أَنَّ دَوَامَ الحَالِ مِنَ المُحَالِ، لَقَدْ صَبَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَابَرَ، وَمَعَهُ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، حَتَّى أَكْرَمَهُمُ اللهُ تعالى بِاليُسْرِ بَعْدَ العُسْرِ.

ثَالِثًا: مِنْ أَعْظَمِ العِظَاتِ وَالعِبَرِ التي نَأْخُذُهَا مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى أَنَّ تَآلُفَ القُلُوبِ وَتَرَاحُمَهَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ النَّصْرِ؛ لَقَدْ كَانَ عَدَدُ أَهْلِ بَدْرٍ قَلِيلًا في الكَمِّ، وَلَكِنْ كَانَ عَظِيمًا في النَّوْعِ، كَانُوا كَالجَسَدِ الوَاحِدِ، كَانُوا يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، كَانَتِ المَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ بَيْنَهُمْ، كَانُوا مُتَآلِفِينَ، مُتَكَاتِفِينَ، مُتَنَاصِرِينَ، مُتَآزِرِينَ.

رَابِعًا: مِنْ أَعْظَمِ العِظَاتِ وَالعِبَرِ التي نَأْخُذُهَا مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ تعالى وَمَحَبَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ كُلِّ حُبٍّ، فَوْقَ حُبِّ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ وَالأَبْنَاءِ وَالإِخْوَةِ، وَفَوْقَ حُبِّ الزَّوْجَاتِ وَالعَشِيرَةِ وَالأَهْلِ، وَفَوْقَ حُبِّ المَالِ بِكُلِّ صُوَرِهِ، لَا يُقَدِّمُونَ أَحَدًا عَلَى أَمْرِ اللهِ تعالى وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

مَا أَجْمَلَ قَوْلَ قَائِلِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ: امْضِ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْن مَعَك، فَوَالَّذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ؛ لَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ. / كَذَا في سِيرَةِ ابنِ هِشَامٍ.

وَفي رِوَايَةٍ: وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لِأَمْرِكَ فَوَاللهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ. / كَذَا في البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ.

سَادَتِي أَهْلَ بَدْرٍ الكِرَامَ، مِنْ هَذَا المَسْجِدِ الذي شَرُفَ بِاسْمِكُمْ، أَقُولُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَحَمَاتٌ، يَا مَنْ صَدَقْتُمْ مَا عَاهَدْتُمُ اللهَ عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ أَنْزِلْ شَآبِيبَ رَحْمَتِكَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ الكِرَامِ، وَبَوِّئْهُمُ المَنَازِلَ العُلَى مِنَ الجَنَّاتِ مَعَ الذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: اجْعَلُوا هَذِهِ الآيَةَ نُصْبَ أَعْيُنِكُمْ إِذَا أَرَدْتُمْ رِضَا اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَتَأَدَّبُوا بِآدَابِهِمْ لِتَنَالُوا مَا نَالُوا بِإِذْنِ اللهِ تعالى.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 16/ رمضان /1444هـ، الموافق: 7/ نيسان / 2023م

 2023-04-07
 4983
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

11-07-2025 47 مشاهدة
947ـ خطبة الجمعة: احذر الغرور ساعة العطاء

أَقْبَحُ وَصْفٍ فِي الإِنْسَانِ العُجْبُ وَالغُرُورُ بِمَا أَسْبَغَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ؛ وَالأَقْبَحُ مِنْهُ مَنْ ظَنَّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُغَيِّرُ مَا بِهِ وَلَو كَانَ مُقِيمًا عَلَى المَعْصِيَةِ؛ وَالأَقْبَحُ مِنْ ... المزيد

 11-07-2025
 
 47
04-07-2025 400 مشاهدة
946ـ خطبة الجمعة: تفرسوا وجوه الناس

أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد

 04-07-2025
 
 400
25-06-2025 641 مشاهدة
945ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾

لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد

 25-06-2025
 
 641
19-06-2025 964 مشاهدة
944ـ خطبة الجمعة: وقفة تساءل وتأمل

لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد

 19-06-2025
 
 964
12-06-2025 1110 مشاهدة
943ـ خطبة الجمعة: هل تشعر بآلام الآخرين؟

لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد

 12-06-2025
 
 1110
04-06-2025 437 مشاهدة
942ـ خطبة الجمعة: ماذا نقول لإخوتنا في غزة أيام العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد

 04-06-2025
 
 437

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3236
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424831936
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :