821ـ خطبة الجمعة: المجاهرة بالمعصية طامة كبرى

821ـ خطبة الجمعة: المجاهرة بالمعصية طامة كبرى

821ـ خطبة الجمعة: المجاهرة بالمعصية طامة كبرى

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: فِرُّوا مِنَ اللهِ تعالى إلى اللهِ تعالى، وَاسْتَتِرُوا بِسِتْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا تُبَارِزُوا الجَبَّارَ بِالمَعَاصِي، وَلَا تُجَاهِرُوا بِهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِنَ الذينَ قَلَّ إِيمَانُهُمْ، وَذَهَبَ الحَيَاءُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ هَلَاكَ هَؤُلَاءِ مُحَقَّقٌ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِنْ لَمْ يَتُوبُوا إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ».

المُجَاهَرَةُ بِالمَعْصِيَةِ طَامَّةٌ كُبْرَى:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ المُجَاهَرَةَ بِالمَعْصِيَةِ طَامَّةٌ كُبْرَى، لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَزِيدُ عَلَى عِظَمِ الذَّنْبِ انْسِلَاخَهُ مِنَ الحَيَاءِ مِنَ اللهِ تعالى وَمِنْ خَلْقِهِ، وَشَتَّانَ بَيْنَ مَنْ يَسِيرُ سَيْرَ الصَّالِحِينَ وَيُجَاهِدُ نَفْسَهُ، وَكُلَّمَا وَقَعَ تَابَ وَنَدِمَ وَلَمْ يُجَاهِرْ بِالمَعْصِيَةِ، لِيُقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، وَيَكُونُ مَشْمُولًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» رَوَاهَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَبَيْنَ مَنْ جَاهَرَ بِالمَعْصِيَةِ، فَكَانَ مِنَ الخَاسِرِينَ، إِذْ لَا يَذْكُرُهُ النَّاسُ إِلَّا بِشَرٍّ.

أَيُّهَا المُجَاهِرُ بِمَعْصِيَتِكَ، مَاذَا تُرِيدُ مِنَ المُجَاهَرَةِ؟ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تُبَارِزَ رَبَّكَ؟ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تُعَرِّضَ نِعْمَةَ اللهِ تعالى عَلَيْكَ للزَّوَالِ؟ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ أُسْوَةً سَيِّئَةً لِغَيْرِكَ؟

المَعْصِيَةُ لَيْسَتْ مَحَلًّا للمُبَاهَاةِ وَالمُفَاخَرَةِ وَالاعْتِزَازِ، بَلْ هِيَ مَحَلٌّ للتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ وَالاسْتِغْفَارِ.

المُجَاهَرَةُ بِالمَعْصِيَةِ مِنْ أَخْطَرِ أَلْوَانِ المَعَاصِي، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى وَقَاحَةِ المُجَاهِرِ، وَتَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ إِيمَانِهِ، وَقَدْ تُعَرِّضُهُ للانْسِلَاخِ عَنْ دِينِهِ وَإِيمَانِهِ.

المَعْصِيَةُ إِنْ سُتِرَتْ فَلَنْ تَضُرَّ إِلَّا صَاحِبَهَا، وَلَكِنْ إِذَا أُعْلِنَتْ وَجُوهِرَ بِهَا فَإِنَّهَا تَضُرُّ المُجْتَمَعَ كُلَّهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.

المُجَاهِرُ بِالمَعْصِيَةِ لَا يُعَافَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّهُ صَارَ دَاعِيًا المُجْتَمَعَ لِفِعْلِ المَعَاصِي، وَقَدْ لَا يَكْتَفِي المُجَاهِرُ بِفِعْلِ المَعْصِيَةِ أَمَامَ مَنْ يَرَاهُ، بَلْ يَنْقُلُ ذَلِكَ عَبْرَ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَثُرَتْ صُوَرُ المُجَاهَرَةِ بِالمَعَاصِي في مُجْتَمَعِنَا؛ تَرَى وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَحَدَّثُ عَنْ فِسْقِهِ وَفُجُورِهِ وَيَتَفَاخَرُ بِذَلِكَ، وَكَمْ وَكَمْ مِنَ الشَّبَابِ مَنْ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ عَلَاقَاتِهِمْ مَعَ النِّسَاءِ الأَجْنَبِيَّاتِ؟ وَكَمْ وَكَمْ مِنْ فَتَاةٍ تَتَحَدَّثُ عَنْ عَلَاقَاتِهَا الآثِمَةِ مَعَ الشَّبَابِ؟ كَمْ وَكَمْ تَفْتَخِرُ بِثِيَابِهَا الفَاضِحَةِ وَزِينَتِهَا وَمِكْيَاجِهَا؟

وَكَمْ وَكَمْ مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا وَأَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَهُوَ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ؟

كَمْ وَكَمْ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ تَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ، حَتَّى صَارَتْ إِطَالَةُ شُعُورِ بَعْضِ الشَّبَابِ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ؛ وَمِنْ خِلَالِ هَذَا أَتَوَجَّهُ إلى الشَّبَابِ أَهْلِ الاسْتِقَامَةِ، مِمَّنْ ظَنُّوا أَنَّ إِطَالَةَ الشَّعْرِ مِنَ السُّنَّةِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ إِطَالَةَ الشَّعْرِ لَيْسَتْ مِنَ السُّنَّةِ، وَلَو كَانَ ذَلِكَ سُنَّةً لَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «احْلِقُوهُ كُلَّهُ، أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

اليَوْمَ صَارَتْ إِطَالَةُ الشُّعُورِ شِعَارًا لِبَعْضِ الذينَ أَحْيَوُا التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ؛ فَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ.

صُوَرُ المُجَاهَرَةِ بِالمَعْصِيَةِ تَدُلُّ عَلَى الاسْتِخْفَافِ بِأَوَامِرِ اللهِ تعالى وَنَوَاهِيهِ، وَهِيَ دَعْوَةٌ لِنَشْرِ الفَسَادِ وَالمُنْكَرَاتِ، وَرُبَّمَا دَعْوَةٌ لِاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللهُ تعالى.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَا تَشْتَاقُ نَفْسُ المُجَاهِرِ إلى سَتْرِ اللهِ تعالى لَهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ أَمَا يُرِيدُ سَتْرَ اللهِ عَلَيْهِ؟ لِيَسْمَعِ المُجَاهِرُ هَذَا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ الذي رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: بَيْنَا ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ـ أَوْ قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ ـ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْوَى؟

فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُدْنَى المُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ ـ وَقَالَ هِشَامٌ: يَدْنُو المُؤْمِنُ ـ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ يَقُولُ: أَعْرِفُ، يَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ، فَيَقُولُ: سَتَرْتُهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ».

فَلْنَحْذَرِ المُجَاهَرَةَ بِالمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَنْ يُعَافَى يَوْمَ القِيَامَةِ، بِشَهَادَةِ الصَّادِقِ الأَمِينِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ».

اللَّهُمَّ اسْتُرْنَا فِيمَا بَقِيَ مَنْ أَعْمَارِنَا كَمَا سَتَرْتَنَا أَوَّلَهُ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 24/ذو القعدة /1443هـ، الموافق: 24/ حزيران / 2022م

 2022-06-24
 5994
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

11-07-2025 146 مشاهدة
947ـ خطبة الجمعة: احذر الغرور ساعة العطاء

أَقْبَحُ وَصْفٍ فِي الإِنْسَانِ العُجْبُ وَالغُرُورُ بِمَا أَسْبَغَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ؛ وَالأَقْبَحُ مِنْهُ مَنْ ظَنَّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُغَيِّرُ مَا بِهِ وَلَو كَانَ مُقِيمًا عَلَى المَعْصِيَةِ؛ وَالأَقْبَحُ مِنْ ... المزيد

 11-07-2025
 
 146
04-07-2025 439 مشاهدة
946ـ خطبة الجمعة: تفرسوا وجوه الناس

أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد

 04-07-2025
 
 439
25-06-2025 681 مشاهدة
945ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾

لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد

 25-06-2025
 
 681
19-06-2025 1025 مشاهدة
944ـ خطبة الجمعة: وقفة تساءل وتأمل

لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد

 19-06-2025
 
 1025
12-06-2025 1138 مشاهدة
943ـ خطبة الجمعة: هل تشعر بآلام الآخرين؟

لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد

 12-06-2025
 
 1138
04-06-2025 450 مشاهدة
942ـ خطبة الجمعة: ماذا نقول لإخوتنا في غزة أيام العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد

 04-06-2025
 
 450

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3236
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424910836
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :