825ـ خطبة الجمعة: علو قدر الإنسان بأخلاقه

825ـ خطبة الجمعة: علو قدر الإنسان بأخلاقه

825ـ خطبة الجمعة: علو قدر الإنسان بأخلاقه

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى العَبْدِ المُسْلِمِ أَنْ يَجْعَلَ صَدْرَهُ سَلِيمًا مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ، نَقِيًّا مِنَ الغِلِّ وَالحَسَدِ، صَافِيًا مِنَ الغَدْرِ وَالخِيَانَةِ، مُعَافًى مِنَ الضَّغِينَةِ وَالحِقْدِ، لَا يَطْوِي في قَلْبِهِ إِلَّا المَحَبَّةَ وَالشَّفَقَةَ وَالرَّحْمَةَ عَلَى خَلْقِ اللهِ تعالى أَجْمَعِينَ.

قَدْ يَجِدُ العَبْدُ المُؤْمِنُ الذي مَنَّ اللهُ تعالى عَلَيْهِ بِسَلَامَةِ صَدْرِهِ مِنْ بَعْضِ إِخْوَانِهِ الأَذَى وَالسُّوءَ وَالمَكْرُوهَ، وَرُبَّمَا بَعْضُهُمْ يُسْرِفُ في الإِسَاءَةِ إِلَيْهِ أَو الحَطِّ مِنْ قَدْرِهِ، بَلْ قَدْ يَفْتَرِي عَلَيْهِ الكَذِبَ وَالسُّوءَ، وَمَعَ كُلِّ هَذَا تَرَاهُ يَدْعُو اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِقَلْبٍ صَادِقٍ أَنْ يَتُوبَ اللهُ تعالى عَلَيْهِ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْهُ، وَيَهْدِيَهُ سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَلَا يَجِدُ في نَفْسِهِ سَبِيلًا للانْتِقَامِ وَالانْتِصَارِ للنَّفْسِ، وَبِقَدْرِ إِدْبَارِهِ عَنْهُ، وَأَذَاهُ لَهُ، يَكُونُ إِقْبَالُهُ عَلَيْهِ، مُسْتَحْضِرًا قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.

عُلُوِّ قَدْرِ الإِنْسَانِ بِأَخْلَاقِهِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ عُلُوَّ قَدْرِ الإِنْسَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالأَخْلَاقِ السَّامِيَةِ الفَاضِلَةِ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَلَامَةِ الصَّدْرِ مِنَ الضَّغَائِنِ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِحُبِّ الخَيْرِ للآخَرِينَ مَهْمَا أَسَاؤُوا، لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُقَابَلَةِ الإِسَاءَةِ بِالإِحْسَانِ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِاسْتِحْضَارِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.

وَبِاسْتِحْضَارِ حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ.

فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ».

وَمَا أَجْمَلَ قَوْلَ القَائِلِ:

إِذَا أَدْمَتْ قَوَارِصُكُمْ فُؤُادِي   ***   صَبَرْتُ عَلَى أَذَاكُمْ وَانْطَوَيْتُ

وَجِـئْتُ إِلَـيْـكُمُ طَلْقَ المُحَيَّا   ***   كَـأَنِّي مَـا سَـمِعْتُ وَمَا رَأَيْتُ

كَمْ يَعْلُو قَدْرُ الإِنْسَانِ، وَتَشْرُفُ مَنْزِلَتُهُ حِينَمَا يَصِلُ إلى هَذِهِ المَنْقَبَةِ العَظِيمَةِ، وَالخُلَّةِ الكَرِيمَةِ التي لَا يَقْوَى عَلَيْهَا إِلَّا ذَوُو الصِّدْقِ وَالإِخْلَاصِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِلَ إلى أَعْتَابِهَا إِلَّا مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ حَقَّ المُجَاهَدَةِ، وَفَطَمَهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَاسْتَحْضَرَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ غَابَ عَنْكُمْ حَدِيثُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي قَالَ فِيهِ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ في آخِرِ الحَدِيثِ قَالَ صَاحِبُ هَذِهِ البِشَارَةِ عِنْدَمَا سَأَلَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بَعْدَ أَنْ بَاتَ عِنْدَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَلَمْ يَرَ كَثِيرَ عَمَلٍ مِنْهُ: مَا الذي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ.

قَالَ ابْنُ عمْرٍو: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.

فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ أَصْحَابَ النُّفُوسِ العَلِيَّةِ الكَبِيرَةِ العَامِرَةِ بِنُورِ اللهِ تعالى، بِنُورِ القُرْآنِ، بِنُورِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، تَكُونُ هَكَذَا، لَا تُقَابِلُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، بَلْ تَعْفُو وَتَصْفَحُ، طَمَعًا بِالوُصُولِ إلى مَرْضَاةِ اللهِ تعالى وَمَغْفِرَتِهِ، وَالْتِزَامًا بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى هَذَا الخُلُقِ؟

اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا بِهِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 16/ذو الحجة /1443هـ، الموافق: 15/ تموز / 2022م

 2022-07-14
 3637
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

12-04-2024 203 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 203
09-04-2024 479 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 479
04-04-2024 647 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 647
28-03-2024 533 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 533
21-03-2024 939 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 939
14-03-2024 1601 مشاهدة
904ـ خطبة الجمعة: حافظوا على الطاعات والعبادات

فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا. وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ تَأْتِي ... المزيد

 14-03-2024
 
 1601

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3159
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 412405563
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :