913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فَيَا عِبَادَ اللهِ: فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.

كَيْفَ تَطِيبُ نَفْسُ المُؤْمِنِ أَنْ يَتْرُكَ الحَجَّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ فَرَائَضِ الإِسْلَامِ وَأَرْكَانِهِ؟ بَلْ كَيْفَ يَبْخَلُ بِالمَالِ عَلَى نَفْسِهِ في أَدَاءِ هَذِهِ الفَرِيضَةِ، وَهُوَ يُنْفِقُ المَالَ الكَثِيرَ فِيمَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ وَزْوَجَتُهُ وَوَلَدُهُ؟ بَلْ كَيْفَ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ التَّعَبِ في الحَجِّ وَهُوَ يُرْهِقُ نَفْسَهُ في التَّعَبِ في أُمُورِ دُنْيَاهُ؟ وَالعَجِيبُ أَنْ يَتَثَاقَلَ العَبْدُ عَنْ أَدَاءِ فَرِيضَةِ الحَجِّ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ وَكَيْفَ يُؤَخِّرُ أَدَاءَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الوُصُولَ إِلَيْهِ بَعْدَ عَامِهِ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: أَدُّوا مَا فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَيْكُمْ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ بِالمَالِ، وَرَزَقَكُمُ الصِّحَّةَ وَالعَافِيَةَ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾.

آثَارُ الحَجِّ عَلَى النَّفْسِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا حُجَّاجَ بَيْتِ اللهِ تعالى الحَرَامِ، قِفُوا مَعَ مَنَاسِكِ الحَجِّ وِقْفَةَ الإِنْسَانِ المُتَدَبِّرِ لِلْعِبَرِ وَالحِكَمِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ مَنَاسِكِ الحَجِّ رَمْيُ الجِمَارِ، الَّتِي فِيهَا إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ بَالِغَةٌ عَلَى تَعْوِيدِ المُسْلِمِ نَفْسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تعالى المُجَرَّدَةِ، يَرْمِي الجِمَارَ، وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْ فَائِدَةَ الرَّمْيِ وَحِكْمَتَهُ، وَفِيهَا إِظْهَارٌ لِلْعُبُودِيَّةِ المَحْضَةِ للهِ تعالى.

وَفِيهَا التَّشَبُّهُ بِسَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ رَمَى إِبْلِيسَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ عِنْدَمَا عَرَضَ لَهُ أَثْنَاءَ حَجِّهِ، رَوَى الحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَفَعَهُ قَالَ: «لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدِ الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونِ وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ تَتَّبِعُونَ».

فَرَمْيُ الجِمَارِ مِنْ شَعَائِرِ الحَجِّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إلى رَجْمِهِ عِنْدَ وَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: عَلَيْنَا وَعَلَى حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ أَنْ نَتَذَكَّرَ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ لَنَا، حَيْثُ مَارَسَ كَيْدَهُ وَفِتْنَتَهُ مُبْتَدِئًا بِالأَبَوَيْنِ الكَرِيمَيْنِ، سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأُمِّنَا حَوَّاءَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَاسْتَمَرَّ كَيْدُهُ وَفِتْنَتُهُ لِأَوْلَادِ سَيِّدِنَا آدَمَ إلى يَوْمِنَا هَذَا إلى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَأَقْسَمَ لِرَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ حَرِيصٌ عَلَى غِوَايَتِنَا جَمِيعًا، قَالَ تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.

وَقَالَ تعالى مُخْبِرًا عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، يُحِبُّ لَهُمُ الخَيْرَ، وَيَكْرَهُ لَهُمُ السُّوءَ، وَمِنْ مَظَاهِرِ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ عَرَّفَنَا حَقِيقَةَ الشَّيْطَانِ وَحَذَّرَنَا مِنْهُ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.

وَبَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ يَدْعُونَا لِأَنْ نَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.

وَقَالَ لَنَا مُحَذِّرًا مِنَ اتِّخَاذِهِ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ تعالى، فَقَالَ: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الشَّيْطَانُ هُوَ العَدُوُّ اللَّدُودُ لِلْإِنْسَانِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَذَكَّرَ الإِنْسَانُ هَذِهِ العَدَاوَةَ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَخَاصَّةً مَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِحَجِّ بَيْتِ اللهِ تعالى الحَرَامِ، فَلَا يَلِيقُ بِكَ يَا أَيُّهَا الحَاجُّ أَنْ تَرْمِيَ الجِمَارَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُوَافِقَ الشَّيْطَانَ في وَسْوَسَتِهِ، فَمَنْ وَافَقَهُ في وَسْوَسَتِهِ وَفي إِغْوَائِهِ بَعْدَ رَمْيِ الجِمَارِ، فَمَا الفَائِدَةُ مِنْ هَذَا الرَّمْيِ؟

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَحْفَظَنَا مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 2/ ذو القعدة /1445هـ، الموافق: 10/ أيار / 2024م

 2024-05-10
 1349
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

04-10-2024 75 مشاهدة
929ـ خطبة الجمعة: الأدب مع الله قلبًا ولسانًا وأركانًا

إِنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الأَدَبِ الأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى، بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ أَدَبٍ، وَالأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى هُوَ حُسْنُ الانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مَعَ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالحَيَاءِ مِنْهُ تَبَارَكَ وتعالى. ... المزيد

 04-10-2024
 
 75
27-09-2024 413 مشاهدة
928ـ خطبة الجمعة: الآداب المطلوبة من كل مسلم

لَقَدْ جَاءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةٍ مِنْ عِنْدِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى لِخَلْقِهِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَتَأَدَّبُ مَعَ حَبِيبِهِ ... المزيد

 27-09-2024
 
 413
20-09-2024 615 مشاهدة
927ـ خطبة الجمعة: الأدب معه صلى الله عليه وسلم

مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ وَإِنْصَافٍ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُو جَمِيعَ العُقَلَاءِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ إلى الأَدَبِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ... المزيد

 20-09-2024
 
 615
13-09-2024 748 مشاهدة
926ـ خطبة الجمعة: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم (2)

العَارُ كُلُّ العَارِ أَنْ لَا يَعْرِفَ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ عَرَفَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ لَمْ يَرْتَبْ وَلَمْ يَشُكَّ في صِدْقِهِ وَفي صِدْقِ مَا جَاءَ ... المزيد

 13-09-2024
 
 748
07-09-2024 1154 مشاهدة
925ـ خطبة الجمعة: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم (1)

لَقَدْ وَهَبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ البَشَرِيَّةَ حَيَاةَ سَعَادَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ، وَرُوحًا نَاضِرَةً، وَذَلِكَ بِظُهُورِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا ... المزيد

 07-09-2024
 
 1154
29-08-2024 621 مشاهدة
924ـ خطبة الجمعة: فقد العلماء مصيبة كبرى

العُلَمَاءُ العَامِلُونَ الرَّبَّانِيُّونَ نُجُومٌ جَعَلَهُمُ اللهُ تعالى هِدَايَةً لِمَنْ أَرَادَ سَلَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، العُلَمَاءُ العَامِلُونَ هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ المَرْضِيُّونَ، أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ مَشْهُودٍ ... المزيد

 29-08-2024
 
 621

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5630
المقالات 3193
المكتبة الصوتية 4860
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 417748272
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :