879ـ خطبة الجمعة: إيمان المؤمن يسمو على المصائب

879ـ خطبة الجمعة: إيمان المؤمن يسمو على المصائب

879ـ خطبة الجمعة: إيمان المؤمن يسمو على المصائب

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ يُذْهِبُ الهُمُومَ، وَيُزِيلُ الغُمُومَ، وَهُوَ قُرَّةُ عَيْنِ المُؤمِنِينَ، وَسُلْوَةُ العَابِدِينَ.

المُؤْمِنُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ لَا يَنْظُرُ إلى مَا مَضَى ِأَنَّهُ فَاتَ وَمَاتَ وَانْقَضَى، وَيَرْضَى بِالقَضَاءِ المَحْتُومِ، وَالرِّزْقِ المَقْسُومِ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ تعالى بِقَدَرٍ، فَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: لِمَاذَا الضَّجَرُ؟

المُؤْمِنُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ يَعِيشُ في حُدُودِ يَوْمِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَصْبَحَ لَا يَنْتَظِرُ المَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَى لَا يَنْتَظِرُ الصَّبَاحَ، وَهُوَ عَلَى يَقِين أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.

المُؤْمِنُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ طَاهِرُ القَلْبِ، سَامِي الرُّوحِ، جَعَلَ هَمَّهُ رِضَا اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّحَلِّيَ بِأَخْلَاقِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

إِيمَانُ المُؤْمِنِ يَسْمُو عَلَى المَصَائِبِ فَيَصْبِرُ وَيَحْتَسِبُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ بِإِيمَانِهِ يَسْمُو عَلَى المَصَائِبِ كُلِّهَا مَهْمَا عَظُمَتْ فَيَصْبِرُ وَيَحْتَسِبُ، وَذَلِكَ لِثِقَتِهِ بِاللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

وَلِثِقَتِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ بِإِيمَانِهِ يَسْمُو عَلَى المَصَائِبِ كُلِّهَا مَهْمَا عَظُمَتْ فَيَصْبِرُ وَيَحْتَسِبُ، تَأَسِّيًا بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

لَقَدْ لَاقَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا لَاقَى مِنَ الشَّدَائِدِ مِنْ قَوْمِهِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَخَاصَّةً يَوْمَ الحِصَارِ في شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ، حَيْثُ حُوصِرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، حَتَّى جَهَدَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ضِيقِ الحِصَارِ، وَأَكَلُوا وَرَقَ الشَّجَرِ، وَأَطْفَالُهُمْ يَتَضَاغُونَ مِنَ الجُوعِ، حَتَّى إِنَّ بُكَاءَهُمْ لَيُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ، وَقُرَيْشٌ تَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التُّجَّارِ، فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ في السِّلْعَةِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَلَا لِبَاسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الاسْتِخْفَاءِ.

قُرَيْشٌ تَفْعَلُ هَذَا، وَهِيَ المَشْهُورَةُ بِإِكْرَامِ الضُّيُوفِ وَالنَّجْدَةِ وَالكَرَمِ وَالحَمِيَّةِ؟ نَعَمْ، لِأَنَّ المَسْأَلَةَ مَسْأَلَةُ كُفْرٍ وَإِيمَانٍ.

هَذَا هُوَ شَأْنُ الحَاقِدِينَ وَالحَاسِدِينَ وَالمُنَافِقِينَ القَائِلِينَ: ﴿لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾.

لَقَدْ أَنْفَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ، وَكَذَا أَبُو طَالِبٍ، وَأَنْفَقَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا مَالَهَا حَتَّى وَصَلُوا إلى حَدِّ الضُّرِّ وَالفَاقَةِ.

وَقُرَيْشٌ تَنْظُرُ وَتَنْتَظِرُ أَنْ يَرْتَدَّ المُؤْمِنُونَ عَنْ إِيمَانِهِمْ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَنْ يَتَزَعْزَعَ إِيمَانُ عَبْدٍ تَغَلْغَلَ في قَلْبِ صَاحِبِهِ، انْطَلَقُوا مِنْ مُنْطَلَقِ الإِيمَانِ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِمْ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: اقْضُوا مَا أَنْتُمْ قَاضُونَ، إِنَّمَا تَقْضُونَ هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا، وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

يَا عِبَادَ اللهِ: بَلِ الأَشَدُّ مِنْ هَذَا مَا كَانَ يَوْمَ الطَّائِفِ، يَوْمُ الطَّائِفِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الطَّائِفِ، هُوَ أَشَدُّ مَا لَاقَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ، وَعِنْدَمَا خَرَجَ مِنَ الطَّائِفِ هَامَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يَسْتَفِقْ إِلَّا في قَرْنِ الثَّعَالِبِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا في دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي».

نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، إِنَّهُ الإِيمَانُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾.

نَعَمْ، إِنَّهُ الإِيمَانُ الذي يَزِيدُ المُؤْمِنَ إِيمَانًا وَصَلَابَةً كُلَّمَا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، إِنَّهُ الإِيمَانُ الذي تَشْتَعِلُ جَذْوَتُهُ في الأَوْقَاتِ العَصِيبَةِ، إِنَّهُ الإِيمَانُ الذي لَا يَفْزَعُ صَاحِبُهُ وَلَا يَتَزَعْزَعُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَخْضَعُ وَلَا يَخْنَعُ ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ هُوَ الذي يُذَلِّلُ الصِّعَابَ وَالشَّدَائِدَ مَهْمَا عَظُمَتْ؛ وَأَمَّا إِذَا ضَعُفَ الإِيمَانُ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ فَإِنَّ المَصَائِبَ وَالشَّدَائِدَ تَتَغَلَّبُ عَلَى هَذَا العَبْدِ، حَتَّى إِنَّهَا لَتَجْعَلُ حَيَاتَهُ حَيَاةَ شَقَاءٍ وَضَنْكٍ، وَرُبَّمَا يَصِلُ إلى دَرَجَةِ الانْتِحَارِ، أَو المَرَضِ النَّفْسِيِّ، أَو يَتَمَنَّى المَوْتَ صَبَاحًا وَمَسَاءً لِضُرٍّ أَصَابَهُ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَزِيدَ في إِيمَانِنَا حَتَّى لَا نُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرَ، وَلَا تَأْخِيرَ مَا عَجَّلَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 10/ المحرم /1445هـ، الموافق: 28/ تموز / 2023م

 2023-07-27
 3045
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

24-04-2025 119 مشاهدة
935ـ خطبة الجمعة: سلامة الصدر نعمة ربانية

مِنْ أَهَمِّ مَا يُمَيِّزُ الأُمَّةَ المُحَمَّدِيَّةَ، أَنَّهَا أُمَّةٌ مُتَوَادَّةٌ مُتَرَاحِمَةٌ مُتَكَاتِفَةٌ مُتَحَابَّةٌ، تَبْنِي أَفْرَادَهَا، وَتُقِيمُ مُجْتَمَعَاتِهَا عَلَى أُسُسِ التَّعَاوُنِ المُشْتَرَكِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالاحْتِرَامِ ... المزيد

 24-04-2025
 
 119
17-04-2025 289 مشاهدة
934ـ خطبة الجمعة: أسباب النصر (2)

لَقَدْ وَعَدَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى لَا يُخْلَفُ، بَلْ أَوْضَحَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ أَنَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ ... المزيد

 17-04-2025
 
 289
10-04-2025 628 مشاهدة
933ـ خطبة الجمعة: أسباب النصر (1)

مِنَ المَعْلُومِ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ مُسْلِمٍ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ، وَأَنْ يُمَكِّنَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ... المزيد

 10-04-2025
 
 628
28-11-2024 4084 مشاهدة
932ـ خطبة الجمعة: مهمتنا أيام الكرب والغمة

أَحْوَالٌ عَصِيبَةٌ، وَظُرُوفٌ رَهِيبَةٌ تُحِيطُ بِأَهْلِ بِلَادِ الشَّامِ في هَذِهِ الأَيَّامِ، نَرَى صُوَرًا مُحْزِنَةً، أُمَّةٌ في مَجْمُوعِهَا كَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، أُمَّةٌ قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ... المزيد

 28-11-2024
 
 4084
22-11-2024 1522 مشاهدة
931ـ خطبة الجمعة: الدافع إلى محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

الإنْسَانُ السَّوِيُّ مَجْبُولٌ وَمَفْطُورٌ مِنْ أَصْلِ خَلْقِهِ عَلَى الحُبِّ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إِنْسَانٍ سَوِيٍّ عَاقِلٍ بِدُونِ حُبٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الحُبُّ مُدَنَّسًا أَمْ مُقَدَّسًا، فَالمُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ... المزيد

 22-11-2024
 
 1522
14-11-2024 1778 مشاهدة
930ـ خطبة الجمعة: غرس الله تعالى محبته صلى الله عليه وسلم في الجمادات وغيرها

لَقَدْ عَظَّمَ اللهُ نَبِيَّنَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَكْرَمَهُ، وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ، وَأَعْطَاهُ مِنَ المِيزَاتِ وَالخَصَائِصِ مَا لَمْ يُعْطِهِ لِأَحَدٍ مِنَ البَشَرِ ... المزيد

 14-11-2024
 
 1778

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5682
المقالات 3210
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 422766241
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :