884ـ خطبة الجمعة: مأساتنا فقد هويتنا

884ـ خطبة الجمعة: مأساتنا فقد هويتنا

884ـ خطبة الجمعة: مأساتنا فقد هويتنا

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ خَطَرَ عَلَى بَالِ أَحَدِنَا أَنْ يَتَسَاءَلَ مَعَ نَفْسِهِ: مَنْ أَنَا؟ وَمَا هُوِيَّتِي؟

قَدْ يَسْتَغْرِبُ الجَمِيعُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ، لِأَنَّ الجَوَابَ يَأْتِي مُبَاشَرَةً: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، أَنَا المُهَنْدِسُ، أَنَا الطَّبِيبُ، أَنَا التَّاجِرُ، أَنَا الضَّابِطُ، أَنَا الشَّيْخُ، وَهَكَذَا.

وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا المَقْصُودَ مِنَ السُّؤَالِ، المَقْصُودُ هُوَ أَنْ يَأْتِيَ الجَوَابُ المُوَفَّقُ المُسَدَّدُ: أَنَا مُسْلِمٌ، وَهُوِيَّتِي الإِسْلَامُ وَالإِيمَانُ وَالاتِّبَاعُ.

مَاذَا تَعْنِي عِبَارَةُ: أَنَا مُسْلِمٌ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: عِبَارَةُ: أَنَا مُسْلِمٌ، تَعْنِي الانْتِمَاءَ لِدِينِ اللهِ، لِشَرْعِ اللهِ الذي أَنْزَلَهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، عَلَى أَفْضَلِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، تَعْنِي الانْتِمَاءَ لِدِينٍ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.

تَعْنِي مُوَافَقَةَ الفِطْرَةِ التي فَطَرَ اللهُ تعالى النَّاسَ عَلَيْهَا، قَالَ تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

تَعْنَي أَنَّنِي مِمَّنِ اصْطَفَاهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَشَمَلَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾.

تَعْنَي أَنَّنِي مِمَّنْ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ نَسْتَشْعِرُ هَذِهِ المَعَانِيَ في انْتِمَائِنَا لِهَذَا الدِّينِ؟ هَلْ نَتَذَوَّقُ لَذَّةَ وَحَلَاوَةَ هَذَا الإِيمَانِ؟ وَهَلْ نَعْتَزُّ وَنَفْتَخِرُ بِانْتِمَائِنَا لِهَذَا الإِسْلَامِ العَظِيمِ؟ وَهَلْ هَذِهِ الهُوِيَّةُ مَنْظَورَةٌ وَمُشَاهَدَةٌ عَلَى أَرْضِ الوَاقِعِ مِنْ خِلَالِ سُلُوكِنَا وَأَفْعَالِنَا؟

أَيْنَ أَخْلَاقُ دِينِنَا فِينَا؟

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّهَا المَأْسَاةُ حِينَمَا نَنْظُرُ إلى وَاقِعِنَا المَرِيرِ، فَنَجِدُ هُوِيَّةَ بَعْضِ  النَّاسِ قَدِ انْمَحَتْ أَو طُمِسَتْ؛ أَيْنَ الصِّدْقُ فِينَا، وَأَيْنَ الأَمَانَةُ؟ أَيْنَ الإِخْلَاصُ وَأَيْنَ الوَفَاءُ؟ أَيْنَ حُبُّ الخَيْرِ للآخَرِينَ وَأَيْنَ الإِيثَارُ؟ أَيْنَ الكَرَمُ وَالجُودُ وَأَيْنَ التَّسَامُحُ؟ هَلْ هَذِهِ الأَخْلَاقُ مَا زَالَتْ حَيَّةً فِينَا، أَمْ أَنَّهَا بَلِيَتْ وَانْدَثَرَتْ؟

أَمَا أَصْبَحَ الكَثِيرُ مِنَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ وَعْدَ غَيْرِهِ لَهُ يَقُولُ: أُرِيدُ وَعْدًا إِنْكِلِيزِيًّا، لِأَنَّ وَعْدَ المُسْلِمِ غَيْرُ صَادِقٍ؟

أَلَيْسَ الكَثِيرُ مِنَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ لَا يَفِيَ بِوَعْدِهِ يَقُولُ لَكَ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: لَا تَقُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ، أُرِيدُ أَنْ تُؤَكِّدَ وَعْدَكَ، لِمَاذَا هَذَا يَا عِبَادَ اللهِ؟ لِمَاذَا جَعَلْنَا التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ الله سِمَةً وَعَلَامَةً للتَّهَرُّبِ مِنَ الوَفَاءِ بِالوَعْدِ؟

هَذَا الوَاقِعُ المَرِيرُ، عَلَامَ يَدُلُّ؟ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ دَخَلَتَ في التِّيهِ وَأَوْغَلَتْ فِيهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الحَقِيقَةُ مُرَّةٌ، لَقَدْ فَقَدَ الكَثِيرُ مِنَ المُسْلِمِينَ هُوِيَّتَهُمُ الإِسْلَامِيَّةَ، وَأَصْبَحُوا يَبْحَثُونَ عَنْ هُوِيَّةٍ غَرْبِيَّةٍ أَو شَرْقِيَّةٍ، بَعْدَ أَنْ أَضَاعَ الهُوِيَّةَ الحَقِيقِيَّةَ التي مَيَّزَهُ اللهُ تعالى بِهَا، وَحَبَاهُ إِيَّاهَا، انْظُرُوا في الهَيْئَاتِ وَالمَظَاهِرِ التي انْتَشَرَتْ، تَقْلِيدٌ لِغَيْرِ المُسْلِمِينَ في اللِّبَاسِ، حَتَّى رَأَيْنَا بَعْضَ مَنْ شَابَ رَأْسُهُ يَمْشِي بِسِرْوَالٍ قَصِيرٍ بِكُلِّ عِزٍّ وَافْتِخَارٍ، أَمَّا الشَّبَابُ فَعِزُّهُمْ وَافْتِخَارُهُمْ بِكَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ في الشَّوَارِعِ وَالأَسْوَاقِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

تَقْلِيدٌ لِغَيْرِ المُسْلِمِينَ ظَهَرَ أَيْضًا في قَصَّاتِ شَعْرِ الرَّأْسِ، حَتَّى انْتَشَرَتْ ظَاهِرَةُ القَزَعِ، أَو إِطَالَةِ الشَّعْرِ وَرَبْطِهِ كَمَا تَفْعَلُ النِّسَاءُ، بَلْ وَصَارَ التَّقْلِيدُ لِغَيْرِ المُسْلِمِينَ حَتَّى في طَرِيقَةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ، بَلْ إِذَا رَأَيْنَا مَنْ يَلْتَقِطُ فُتَاتَ الطَّعَامِ أَنْكَرْنَا عَلَيْهِ، وَإِذَا رَأَيْنَا مَنْ يَلْعَقُ الإِنَاءَ تَطْبِيقًا للسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ المُشَرَّفَةِ، وَالمُشَرِّفَةِ، أَنْكَرْنَا عَلَيْهِ أَشَدَّ الإِنْكَارِ وَقُلْنَا: مَا هَذَا؟ أَيْنَ الحَضَارَةُ وَالتَّقَدُّمُ؟ انْظُرْ إلى الرَّجُلِ الغَرْبِيِّ وَالشَّرْقِيِّ الذي يَأْكُلُ بِالشَّوْكَةِ وَالسِّكِّينِ، هَذَا هُوَ التَّقَدُّمُ وَهَذِهِ هِيَ الحَضَارَةُ.

يَا لَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ كَبِيرَةٍ، أَنْ يَفْعَلَ هَذَا رِجَالُ الأُمَّةِ وَشَبَابُهَا الذينَ يُفْتَرَضُ بِهِمْ أَنْ يَقُودُوا العَالَمَ إلى اللهِ تعالى، وَإلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.

وَأَخْتِمُ خُطْبَتِي هَذِهِ بِمَا رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ لَقِيَهُ الْجُنُودُ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَخُفَّانِ وَعِمَامَةٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِرَأْسِ بَعِيرِهِ يَخُوضُ الْمَاءَ، فَقَالَ لَهُ ـ يَعْنِي قَائِلٌ ـ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَلْقَاكَ الْجُنُودُ وَبَطَارِقَةُ الشَّامِ وَأَنْتَ عَلَى حَالِكَ هَذَا؟

فَقَالَ عُمَرُ: «إِنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللهُ بِالْإِسْلَامِ، فَلَنْ نَبْتَغِيَ الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ».

يَا رَبِّ، رُدَّنَا إلى دِينِنَا رَدًّا جَمِيلًا، رُدَّنَا إلى هُوِيَّتِنَا التي فِيهَا عِزُّنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 16/ صفر /1445هـ، الموافق: 1/ أيلول / 2023م

 2023-08-31
 4183
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

26-07-2024 44 مشاهدة
919ـ خطبة الجمعة: خلق الراعي الأعظم

قَالَ اللهُ تعالى مَادِحًا حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. وجَاءَ في الحَدِيثِ الذي رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ ... المزيد

 26-07-2024
 
 44
18-07-2024 474 مشاهدة
918ـ خطبة الجمعة: المعايير العامة في التعامل مع الآخرين

مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الإِيمَانِ أَنْ يَضَعَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ مَوْضِعَ غَيْرِهِ عِنْدَ التَّعَامُلِ مَعَهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ ... المزيد

 18-07-2024
 
 474
12-07-2024 359 مشاهدة
917ـ خطبة الجمعة: نصائح للمرشحين

مِنَ المُسْتَقِرِّ في العُقُولِ السَّلِيمَةِ أَنَّ لِهَذَا العَالَمِ نِهَايَةً، وَأَنَّ المَوْتَ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ، إِمَّا إلى جَنَّةٍ وَإِمَّا إلى نَارٍ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى. ... المزيد

 12-07-2024
 
 359
30-05-2024 1860 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 1860
23-05-2024 1671 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 1671
17-05-2024 2022 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 2022

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5619
المقالات 3174
المكتبة الصوتية 4811
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 416306658
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :