918ـ خطبة الجمعة: المعايير العامة في التعامل مع الآخرين

918ـ خطبة الجمعة: المعايير العامة في التعامل مع الآخرين

918ـ خطبة الجمعة: المعايير العامة في التعامل مع الآخرين

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الإِيمَانِ أَنْ يَضَعَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ مَوْضِعَ غَيْرِهِ عِنْدَ التَّعَامُلِ مَعَهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَقَدْ رَبَطَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الإِيمَانِ وَالأَخْلَاقِ رَبْطًا لَا انْفِصَامَ لَهُ.

وَقَدْ جَاءَ في الجَامِعِ لِابْنِ وَهْبٍ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ: لَا يَكْمُلُ إِيمَانُ الْمَرْءِ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

الإِيمَانُ وَالأَخْلَاقُ مُتَلَازِمَانِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ عِنْدَ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الذي سَمِعَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾.

المَعَايِيرُ العَامَّةُ في التَّعَامُلِ مَعَ الآخَرِينَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ آمَنْتُمْ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، يَا مَنْ يَعْمَلُ للهِ تعالى مِنْ أَجْلِ الفَوْزِ يَوْمَ القِيَامَةِ: اعْلَمُوا عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ الحَقَّ تَبَارَكَ وتعالى جَعَلَ في شَرْعِهِ الحَنِيفِ مَعَايِيرَ عَامَّةً في التَّعَامُلِ مَعَ الآخَرِينَ؛ مِنْ جُمْلَتِهَا:

أَوَّلًا: أَوْجَبَ عَلَيْنَا الإِخْلَاصَ عِنْدَ تَعَامُلِنَا مَعَ الآخَرِينَ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يُجَازِي العَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمِقْدَارِ إِخْلَاصِهِ للهِ تعالى، وَيَجِبُ أَنْ يَشْعُرَ في تَعَامُلِهِ مَعَ الآخَرِينَ أَنَّهُ يَتَعَامَلُ مَعَ اللهِ تعالى، لِأَنَّ اللهَ تعالى أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ الجَزَاءَ عَلَى عَمَلِهِ مِنَ اللهِ تعالى لَا مِنْ غَيْرِهِ.

وَهَذَا أَمْرٌ ذُو أَهَمِّيَّةٍ عَظِيمَةٍ في التَّعَامُلِ مَعَ الآخَرِينَ، وَقَدْ ضَرَبَ اللهُ تعالى نَمُوذَجًا وَمِثَالًا عَلَى عَمَلِ بَعْضِ المُخْلِصِينَ الذينَ يَتَعَامَلُونَ مَعَ الآخَرِينَ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾.

وَلَقَدْ وَعَدَ اللهُ تعالى هَؤُلَاءِ المُخْلِصِينَ بِالحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾.

ثَانِيًا: أَوْجَبَ عَلَيْنَا الصِّدْقَ في القَوْلِ وَالعَمَلِ أَثْنَاءَ التَّعَامُلِ مَعَ الآخَرِينَ بِحَيْثُ تَتَطَابَقُ أَقْوَالُنَا مَعَ أَفْعَالِنَا، عِنْدَ تَعَامُلِنَا مَعَ النَّاسِ.

فَالصِّدْقُ هُوَ وَسِيلَةُ النَّجَاحِ في الحَيَاةِ الفَرْدِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَحَرُّوا الصِّدْقَ، وَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنَّ فِيهِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ فِيهِ النَّجَاةَ» رَوَاهُ ابنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَمَّا الكَذِبُ في التَّعَامُلِ مَعَ الآخَرِينَ فَطَامَّةٌ كُبْرَى، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلى الفُجُورِ وَالهَلَاكِ في الدُّنْيَا، وَيُؤَدِّي إلى نَارِ جَهَنَّمَ في الآخِرَةِ، لِهَذَا يَقُولُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ثَالِثًا: أَوْجَبَ عَلَيْنَا المُحَافَظَةَ عَلَى العُهُودِ وَالأَمَانَاتِ وَالوَفَاءِ بِالوَعْدِ عِنْدَ تَعَامُلِنَا مَعَ الآخَرِينَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا﴾.

وَقَدِ اعْتَبَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَقِيضَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ خِلَالِ هَذَا أَتَوَجَّهُ إلى الإِخْوَةِ الذينَ صَارُوا أَعْضَاءً في مَجْلِسِ الشَّعْبِ، أَعَانَكُمُ اللهُ تعالى عَلَى مَا حُمِّلْتُمْ، فَإِنِ انْطَلَقْتُمْ في مَجْلِسِ الشَّعْبِ مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الخُطْبَةِ، وَتَعَامَلْتُمْ مَعَ النَّاسِ مِنْ مُنْطَلَقِ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». وَأَخْلَصْتُمْ للهِ تعالى في عَمَلِكُمْ وَأَنْتُمْ تَتَطَلَّعُونَ إلى الأَجْرِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تعالى، وَتَطَابَقَتْ أَقْوَالُكُمْ مَعَ أَفْعَالِكُمْ، وَوَفَّيْتُمْ بِالعُهُودِ وَالوُعُودِ، أَقُولُ لَكُمْ: أَبْشِرُوا وَرَبِّ الكَعْبَةِ، وَإِلَّا لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى فَالحَسْرَةُ سَتَأْكُلُ قُلُوبَكُمْ في يَوْمٍ ﴿لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضَيَاتِ الإِيمَانِ يَا رَبِّ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 13/ محرم /1446هـ، الموافق: 19/ تموز / 2024م

 2024-07-18
 2149
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

28-11-2024 340 مشاهدة
932ـ خطبة الجمعة: مهمتنا أيام الكرب والغمة

أَحْوَالٌ عَصِيبَةٌ، وَظُرُوفٌ رَهِيبَةٌ تُحِيطُ بِأَهْلِ بِلَادِ الشَّامِ في هَذِهِ الأَيَّامِ، نَرَى صُوَرًا مُحْزِنَةً، أُمَّةٌ في مَجْمُوعِهَا كَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، أُمَّةٌ قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ... المزيد

 28-11-2024
 
 340
22-11-2024 238 مشاهدة
931ـ خطبة الجمعة: الدافع إلى محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

الإنْسَانُ السَّوِيُّ مَجْبُولٌ وَمَفْطُورٌ مِنْ أَصْلِ خَلْقِهِ عَلَى الحُبِّ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إِنْسَانٍ سَوِيٍّ عَاقِلٍ بِدُونِ حُبٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الحُبُّ مُدَنَّسًا أَمْ مُقَدَّسًا، فَالمُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ... المزيد

 22-11-2024
 
 238
14-11-2024 525 مشاهدة
930ـ خطبة الجمعة: غرس الله تعالى محبته صلى الله عليه وسلم في الجمادات وغيرها

لَقَدْ عَظَّمَ اللهُ نَبِيَّنَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَكْرَمَهُ، وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ، وَأَعْطَاهُ مِنَ المِيزَاتِ وَالخَصَائِصِ مَا لَمْ يُعْطِهِ لِأَحَدٍ مِنَ البَشَرِ ... المزيد

 14-11-2024
 
 525
04-10-2024 2822 مشاهدة
929ـ خطبة الجمعة: الأدب مع الله قلبًا ولسانًا وأركانًا

إِنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الأَدَبِ الأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى، بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ أَدَبٍ، وَالأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى هُوَ حُسْنُ الانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مَعَ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالحَيَاءِ مِنْهُ تَبَارَكَ وتعالى. ... المزيد

 04-10-2024
 
 2822
27-09-2024 1766 مشاهدة
928ـ خطبة الجمعة: الآداب المطلوبة من كل مسلم

لَقَدْ جَاءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةٍ مِنْ عِنْدِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى لِخَلْقِهِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَتَأَدَّبُ مَعَ حَبِيبِهِ ... المزيد

 27-09-2024
 
 1766
20-09-2024 1284 مشاهدة
927ـ خطبة الجمعة: الأدب معه صلى الله عليه وسلم

مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ وَإِنْصَافٍ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُو جَمِيعَ العُقَلَاءِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ إلى الأَدَبِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ... المزيد

 20-09-2024
 
 1284

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5633
المقالات 3197
المكتبة الصوتية 4873
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 419090899
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :