38ـ كلمات في مناسبات: هكذا يكون الأمراء
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ ارْتِبَاطَ الأَجْيَالِ اللَّاحِقَةِ والنَّاشِئَةِ المُعَاصِرَةِ بِسَلَفِ الأُمَّةِ من العُلَمَاءِ الأَفِذَّاءِ، والأُمَرَاءِ الحُكَمَاءِ، يَنْتَفِعُونَ بِسِيرَتِهِم، ويَسِيرُونَ على نَهْجِهِم، ويَقْتَبِسُونَ من نُورِ عِلْمِهِم وفَضْلِهِم، لَهُوَ من أَهَمِّ الأُمُورِ التي يَنْبَغِي أَنْ نَبْنِيَ بِهَا جِيلَنَا، وخَاصَّةً في زَمَنٍ كَثُرَتْ فِيهِ الفِتَنُ، وطَمَّتْ فِيهِ المِحَنُ، واسْتَحْكَمَتْ فِيهِ الأَزَمَاتُ، وعَمَّتْ فِيهِ المُخَالَفَاتُ، وتَبَايَنَتْ فِيهِ المُشْكِلاتُ والمُعْضِلاتُ، ولا مَخْلَصَ مِنهَا إلا بالاعْتِصَامِ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ، والسَّيْرِ على مَنْهَجِ عُلَمَاءِ سَلَفِ هذهِ الأُمَّةِ رَحِمَهُمُ اللهُ تعالى الذينَ يُعَدُّونَ أَمْثِلَةً حَيَّةً، ونَمَاذِجَ فَرِيدَةً، تُمَثِّلُ التَّطْبِيقَ الحَيَّ السَّلِيمَ، والمَنْهَجَ العَمَلِيَّ الصَّحِيحَ للإِسْلامِ عَقِيدَةً وسُلُوكَاً.
وكَانَ يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: سِيَرُ الرِّجَالِ أَحَبُّ إِلَينَا من كَثِيرٍ من الفِقْهِ، غَيْرَ أَلَّا عِصْمَةَ لأَحَدٍ من سَائِرِ النَّاسِ، والتَّعَصُّبُ للرِّجَالِ مَذْمُومٌ، وخَيْرُ الهَدْيِ هَدْيُ الصَّادِقِ المَصْدُوقِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، الذي مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.
مَا أَنَا إلا رَجُلٌ من المُسْلِمِينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: من الرِّجَالِ العِظَامِ الذينَ كَانُوا أُسْوَةً حَسَنَةً لِمَنْ أَرَادَ، ولِمَنْ كَانَ عَاقِلاً من البَشَرِ، سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، هذهِ الشَّخْصِيَّةُ العَظِيمَةُ التي كَانَتْ أُمَّةً في شَخْصِيَّتِهَا.
أَرَادَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ أَنْ يُؤَصِّلَ للنَّاسِ قَضِيَّةً مُهِمَّةً جِدَّاً، كَانَتْ غَائِبَةً عن أَذْهَانِ كَثِيرٍ من النَّاسِ، ألا وهيَ أَنَّ المَنَاصِبَ لا تَجْعَلُ للإِنسَانِ مَكَانَةً ولا تُشَرِّفُهُ، بَل هوَ الذي يَجْعَلُ لَهَا مَكَانَةً ومَهَابَةً ويُشَرِّفُهَا.
أيُّها الإخوة الكرام: بَعْدَ وَفَاةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ وَدَفْنِهِ، خَرَجَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ من عِنْدِ سُلَيْمَانَ، فَسَمِعَ للأَرْضِ هَدَّةً أو رَجَّةً، فَقَالَ: مَا هذهِ؟
فَقِيلَ: هذهِ مَراكِبُ الخِلَافَةِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قُرِّبَتْ إِلَيكَ لِتَرْكَبَهَا.
فَقَالَ: مَا لِي وَلَها، نَحُّوهَا عَنِّي، قَرِّبُوا إِلَيَّ بَغْلَتِي؛ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهِ بَغْلَتُهُ فَرَكِبَهَا، فَجَاءَهُ صَاحِبُ الشُّرَطِ يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ بالحَرْبِةَ.
فَقَالَ: تَنَحَّ عَنِّي، مَا لِي وَلَكَ، مَا أَنَا إلا رَجُلٌ من المُسْلِمِينَ، فَسَارَ وَسَارَ مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى دَخَلَ المَسْجِدَ.
أيُّها الإخوة الكرام: المَنَاصِبُ لا تَزِيدُ الإِنسَانَ العَاقِلَ إلا تَوَاضُعَاً، وخَوْفَاً من اللهِ تعالى، ولا تُغَيِّرُهُ ولا تُبَدِّلُهُ.
اُبْتُلِيتُ بهذا الأَمْرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد نَظَرَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إلى الإِمَارَةِ أَنَّهَا مَغْرَمٌ ومَسْؤُولِيَّةٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولهذا خَطَبَ في النَّاسِ هذهِ الخُطْبَةَ:
لَمَّا دَخَلَ المَسْجِدَ، نُودِيَ في النَّاسِ، الصَّلاةَ جَامِعَةٌ، الصَّلاةَ جَامِعَةٌ، فَتَسَايَلَ النَّاسُ على المَسْجِدِ من كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَلَمَّا اكْتَمَلَتْ جُمُوعُهُم قَامَ فِيهِم خَطِيبَاً، فَحَمِدَ اللهَ، وأَثْنَى عَلَيهِ، وصَلَّى على نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ثمَّ قَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَد ابْتُلِيتُ بهذا الأَمْرِ عَن غَيْرِ رَأْيٍ مِنِّي فِيهِ ولا طَلَبَةٍ لَهُ ولا مَشُورَةٍ من المُسْلِمِينَ، وَإِنِّي قَد خَلَعْتُ مَا في أَعْنَاقِكُم من بَيْعَتِي فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُم، فَصَاحَ النَّاسَ صَيْحَةً وَاحِدَةً: قَد اخْتَرْنَاكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَرَضِينَاكَ فَلِ أَمْرَنَا باليُمْنِ والبَرَكَةِ.
مَن أَطَاعَ اللهَ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: عِنْدَمَا رَأَى ذلكَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وهَدَأَتِ الأَصْوَاتُ، واطْمَأَنَّتِ القُلُوبُ، حَمِدَ اللهَ تعالى ثَانِيَةً، وأَثْنَى عَلَيهِ، وصَلَّى على نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ثمَّ قَالَ مُبَيِّنَاً للنَّاسِ بِأَنَّ طَاعَتَهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَمَدَّةً من طَاعَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وإلا فَلا طَاعَةَ لَهُ، فَقَالَ:
أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنَّ تَقْوَاهُ خَلَفٌ من كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ من تَقْوَى اللهِ خَلَفٌ، وَتَعَجَّلُوا لآخِرَتِكُم؛ فَإِنَّ من عَجَّلَ لآخِرَتِهِ، كَفَاهُ اللهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ وآخِرَتَهُ، وَأَصْلِحُوا سَرَائِرَكُم يُصْلِحِ اللهُ عَلَانِيَتَكُم، وَأَكْثِرُوا ذِكْرَ المَوْتِ، وَأَحْسِنُوا لَهُ الاسْتِعْدَادَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ؛ فَإِنَّهُ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ، وَإِنِّي واللهِ لا أُعْطِي أَحَدَاً بَاطِلَاً، ولا أَمْنَعُ أَحَدَاً حَقَّاً، ثمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَن أَطَاعَ اللهَ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ، وَمَن عَصَى اللهَ فلا طَاعَةَ لَهُ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللهَ، فَإِنْ عَصَيْتُهُ فلا طَاعَةَ لِي عَلَيكُم. ثمَّ نَزَلَ وَدَخَلَ دَارَ الخِلَافَةِ، فَأَمَرَ بالسُّتُورِ فَهُتِكَتْ، وبالبُسْطِ فَرُفِعَتْ.
الحَمْدُ للهِ الذي أَخْرَجَ من صُلْبِي مَن يُعِينُنِي على دِينِي:
أيُّها الإخوة الكرام: العُظَمَاءُ حَرِيصُونَ دَائِمَاً على أَنْ يَكُونُوا من عِبَادِ الرَّحْمَنِ الذينَ يَدْعُونَ: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً﴾. وسَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ من هؤلاءِ، فَقَد رَبَّى وأَحْسَنَ التَّرْبِيَةَ.
بَعْدَ أَنْ خَرَجَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ من دَارِ الخِلافَةِ، دَخَلَ بَيْتَهُ لِيُسَلِمَ جَنْبَهُ إلى مَضْجَعِهِ لِيَسْتَرِيحَ قَلِيلاً، فَإِذا بِوَلَدِهِ عَبْدِ المَلِكِ، وهوَ ابْنُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ من عُمُرِهِ، يَقُولُ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ؟
قَالَ: يَا بُنَيَّ أَقِيلُ.
قَالَ: تَقِيلُ ولا تَرُدُّ المَظَالِمَ إلى أَهْلِهَا؟
فَقَالَ: إِنِّي سَهِرْتُ البَارِحَةَ في أَمْرِ سُلَيْمَانَ، فَإِذَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ رَدَدْتُ المَظَالِمَ.
فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: وَمَن لَكَ أَنْ تَعِيشَ إلى الظُّهْرِ؟
قَالَ: اُدْنُ مِنِّي أَيْ بُنَيَّ، فَدَنَا مِنهُ، فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وقَالَ: الحَمْدُ للهِ الذي أَخْرَجَ من صُلْبِي مَن يُعِينُنِي على دِينِي.
ثمَّ قَامَ وَخَرَجَ وَتَرَكَ القَائِلَةَ وَأَمَرَ مُنَادِيهِ، فَنَادَى: ألا مَن كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَرْفَعْهَا.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الأُمَرَاءُ بِحَقٍّ مَن تَوَاضَعُوا للخَلْقِ، ونَظَرُوا إلى مَا هُم فِيهِ أَنَّهُ ابْتِلاءٌ ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾؟
وعَلِمُوا أَنَّ طَاعَتَهُم يَجِبُ أَنْ لا تَكُونَ مُطْلَقَةً، بَل مَقَيَّدَةً بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وإلا فَلا طَاعَةَ لَهُم، وَرَبَّوا أَوْلادَهُم على الإِيمَانِ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وأَنْ يَكُونُوا نَاصِحِينَ لا مَادِحِينَ.
﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً﴾. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الجمعة: 9/رمضان /1436هـ، الموافق: 26/حزيران / 2015م
أخوكم أحمد النعسان
يَرجُوكُم دَعوَةً صَالِحَةً
اضافة تعليق |
كُونُوا عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنْ تَعْطِيلِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ نَوَّهَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فِي القُرْآنِ العَظِيمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ... المزيد
هَذَا الدِّينُ الحَنِيفُ يُؤْخَذُ بِالتَّلَقِّي مِنَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ المُتَحَقِّقِينَ بِالعِلْمِ، لَقَدْ أَخَذَ الصَّحْبُ الكِرَامُ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذَ ... المزيد
يَقُولُ الإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مِنْ أَنْفَعِ طُرُقِ العِلْمِ المُوصِلَةِ إِلَى غَايَةِ التَّحَقُّقِ بِهِ ـ أَيْ: بِالعِلْمِ ـ أَخْذُهُ عَنْ أَهْلِهِ المُتَحَقِّقِينَ بِهِ عَلَى الكَمَالِ وَالتَّمَامِ، ... المزيد
مَوْعِظَةٌ مِنْ مَوَاعِظِ سَيِّدِ القُرَّاءِ سَيِّدِنَا أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. يَقُولُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: تَعَلَّمُوا العِلْمَ وَاعْمَلُوا بِهِ، وَلَا تَتَعَلَّمُوهُ لِتَتَجَّمَلُوا بِهِ؛ فَإِنَّهُ يُوشِكُ إِنْ طَالَ بِكُمْ ... المزيد
هَذِهِ لَيْلَةُ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ قَدْ أَقْبَلَتْ، لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ، وَهِيَ لَيْلَةُ فَضْلٍ وَجُودٍ وَخَيْرٍ عَظِيمٍ، حَيْثُ يَتَجَلَّى اللهُ تعالى فِيهَا عَلَى خَلْقِهِ بِالعَفْوِ وَالمَغْفِرَةِ وَقَضاءِ الحَاجَاتِ، لِنَغْتَنِمْ ... المزيد
العُلَمَاءُ العَامِلُونَ الرَّبَّانِيُّونَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ. وَإِنْ كَانَ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ ... المزيد