دروس رمضانية 1438هـ
3ـ نتقي بهذا الصوم
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدِ اخْتَبَرَنَا اللهُ تعالى بِالتَّكْلِيفِ في الصِّيَامِ، وَجَعَلَ هَذَا الصَّوْمَ في أَيَّامِ السَّنَةِ كُلِّهَا، تَارَةً يَكُونُ في الصِّيَفِ، وَتَارَةً يَكُونُ في الشِّتَاءِ، فَإِذَا كَانَ في الصَّيْفِ تَصُومُهُ الأُمَّةِ بِفَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا، وَلَو مَعَ الجُهْدِ وَالمَشَقَّةِ، وَشِدَّةِ العَطَشِ، بِسَبَبِ الحَرِّ وَطُولِ النَّهَارِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللهِ تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.
نَصُومُ هَذَا الشَّهْرَ امْتِثَالَاً لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فَمَاذَا نَتَّقِي في هَذَا الصَّوْمِ؟
أولاً: نَتَّقِي بِهَذَا الصَّوْمِ حَرَّ نَارَ جَهَنَّمَ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا سُئِلْتَ هَذَا السُّؤَالَ: لِمَاذَا تَصُومُ حَرَّ هَذَا اليَوْمِ مَعَ طُولِهِ؟ وَمَاذَا تَتَّقِي بِهَذَا الصَّوْمِ؟ قُلْ بِكُلِّ صَرَاحَةٍ وَوُضُوحٍ: أَصُومُ حَرَّ هَذَا اليَوْمِ مَعَ طُولِهِ امْتِثَالَاً لِأَمْرِ اللهِ تعالى الخَالِقِ، الذي أَنَا في قَبْضَتِهِ وَإِلَيْهِ مَآلِي، أَصُومُ لِأَنَّ رَبِّي أَمَرَنِي بِالصِّيَامِ فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾. فَأَنَا مُؤْمِنٌ، وَشَرَفِي عَظِيمٌ عِنْدَمَا يَأْمُرُنِي مَوْلَايَ بِهَذَا الأَمْرِ، وَأَنَا أَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّ خَيْرَ هَذَا الأَمْرِ عَائِدٌ عَلَيَّ لَا عَلَى الذي أَمَرَنِي.
قُلْ: أَنَا أَصُومُ هَذَا اليَوْمَ لِأَنَّ اللهَ تعالى أَمَرَنِي بِصِيَامِهِ، وَحَتَّى أَتَّقِيَ بِهَذَا الصَّوْمِ حَرَّ نَارِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَتَّقِيَ حَرَّ النَّارِ وَأَنْ آمُرَ أَهْلِي، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارَاً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون﴾.
أَصُومُ حَرَّ هَذَا اليَوْمِ لِأَتَّقِيَ حَرَّ نَارِ جَهَنَّمَ التي حَدَّثَنَا عَنْهَا الصَّادِقُ المَصْدُوقُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنْ حَرِّ نَارِ جَهَنَّمَ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مَا أَشَدَّ حَرَّ هَذَا اليَوْمِ، فَنَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا أَنْ تَـصْرِفَ عَنَّا حَرَّ وَلَهِيبَ وَزَمْهَرِيرَ جَهَنَّمَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
ثانياً: نَتَّقِي بِهَذَا الصَّوْمِ حَرَّ المَوْقِفِ يَوْمَ القِيَامَةِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنْ سُئِلْتُمْ لِمَاذَا تَصُومُونَ حَرَّ هَذِهِ الأَيَّامِ مَعَ شِدَّةِ طُولِهَا مَعَ الجُهْدِ وَالتَّعَبِ، مَعَ شِدَّةِ العَطَشِ؟ قُولُوا لِمَنْ سَأَلَ: نَصُومُ حَرَّ هَذِهِ الأَيَّامِ حَتَّى نَتَّقِي حَرَّ المَوْقِفِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَيْثُ تُدْنَى الشَّمْسُ مِنْ رُؤُوسِ الخَلَائِقِ بِمِقْدَارِ مِيلٍ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه مسلم عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ ـ قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ أَمَسَافَةَ الأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ ـ قَالَ: فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامَاً ـ قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ ـ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الصَّائِمُونَ: كَمْ هُوَ شَرَفٌ عَظِيمٌ وَأَنْتَ في أَرْضِ المَحْشَرِ، وَالنَّاسُ يَخُوضُونَ في عَرَقِهِمْ، وَأَنْتَ تَتَقَدَّمُ مِنْ حَوْضِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالمَلَائِكَةُ تُرَحِّبُ بِكَ وَتَتَلَقَّاكَ، وَيَستَقْبِلُكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَيَسْقِيكَ بِيَدِهِ الـشَّرِيفَةِ مِنْ حَوْضِهِ الشَّرِيفِ، هَلْ هُنَاكَ شَرَفٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الشَّرَفِ؟ وَهَلْ هُنَاكَ كَرَامَةٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الكَرَامَةِ؟ وَهَلْ هُنَاكَ سُرُورٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا السُّرُورِ؟
كَمْ هِيَ حَسْرَةُ هَؤُلَاءِ الذينَ أَفْطَرُوا في شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا رُخْصَةٍ؟ كَمْ هِيَ حَسْرَةُ هَؤُلَاءِ في أَرْضِ المَحْشَرِ؟ كَمْ هِيَ حَسْرَةُ هَؤُلَاءِ عِنْدَمَا تَرُدُّهُمْ المَلَائِكَةُ عَنْ حَوْضِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ كَمْ هِيَ حَسْرَةُ هَؤُلَاءِ عِنْدَمَا يَشْفَعُ لَهُمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ لَهُ: «إنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ».
فَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سُحْقَاً سُحْقَاً».
كَمْ هِيَ حَسْرَةُ هَؤُلَاءِ عِنْدَمَا يَتَمَنَّى أَحَدُهُمْ لَوْ أَنَّهُ سَلَكَ طَرِيقَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ كَمْ هِيَ حَسْرَةُ هَؤُلَاءِ عِنْدَمَا يَعُضُّونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلَاً﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الصَّائِمُونَ: قُولُوا لِمَنْ حُرِمَ هَذِهِ النِّعْمَةَ العَظِيمَةَ: نَحْنُ نَصُومُ امْتِثَالَاً لِأَمْرِ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾. نَصُومُ وَلَوْ كَانَ الحَرُّ شَدِيدَاً لَعَلَّنَا بِهَذَا الصَّوْمِ نَتَّقِي سَخَطَ اللهِ تعالى، وَنَتَّقِي حَرَّ المَوْقِفِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَنَتَّقِي حَرَّ نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾.
نَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِعِتْقِ رِقَابِنَا مِنَ النَّارِ مَعَ أُصُولِنَا وَفُرُوعِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَالمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأحد: 2/رمضان /1438هـ ، الموافق: 28/أيار / 2017م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد
فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد
غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد
مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد
يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد
الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد