الإنسان في القرآن العظيم
33ـ ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدَاً مِنْ عِبَادِهِ أَلْهَمَهُ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ، وَحَبَّبَ إلى قَلْبِهِ الإِيمَانَ وَالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَأَلْهَمَهُ الإِكْثَارَ مِنْ دُعَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ كَانَ مِنْ دُعَائِهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عَمَلَاً بِالْحَسَنَاتِ، وَتَرًكَاً لِلْمُنْكَرَاتِ، وَإِذَا أَرَدْتَ فِي قَوْمٍ فِتْنَةً وَأَنَا فِيهِمْ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الدُّعَاءِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَصِيَّةُ اللهِ تعالى للأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ تعالى تَزِيدُ المُؤْمِنَ إِيمَانَاً، وَتَزِيدُهُ جَمَالَاً وَكَمَالَاً وَبَهَاءً وَزِينَةً، هَذِهِ الوَصِيَّةُ هِيَ للأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ جَمِيعَاً بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾.
وَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ تعالى لِجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ﴾.
وَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ تعالى لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هِيَ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ تعالى عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ تعالى، وَأَنْ تَرْجُو ثَوَابَهُ، وَتَخْشَى عِقَابَهُ، وَأَنْ يَرَاكَ حَيْثُ أَمَرَكَ، وَأَنْ يَفقِدَكَ حَيْثُ نَهَاكَ.
تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ نُورٌ في القُلُوبِ، تَظْهَرُ آثَارُهَا عَلَى الجَوَارِحِ وَالقَوَالِبِ، نُورٌ يُسْكِنُهُ اللهُ تعالى في قُلُوبِ مَنْ أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ، فَلَا يَعْلَمُ قَدْرَ هَذَا النُّورِ إِلَّا اللهُ تعالى.
تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ بِاللهِ حَقَّاً، وَخُلَّةٌ مِنْ خِلَالِ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَالإِحْسَانِ، وَهِيَ سَبَبٌ للصَّلَاحِ وَالإِصْلَاحِ، وَسَبَبٌ للفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ، وَأَهْلُ التَّقْوَى هُمُ الرَّابِحُونَ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَغَيْرُهُمْ هُمُ الأَشْقِيَاءُ وَالمَحْرُومُونَ.
نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا بِأَسْمَائِكَ الحُسْنَى وَصِفَاتِكَ العُلَى أَنْ تَجْعَلَنَا مِنَ المُتَّقِينَ حَقَّاً.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْنِي الالْتِزَامَ بِدِينِ اللهِ تعالى، وَبِطَاعَتِهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، حَتَّى تَأْتِيَ المَنِيَّةُ وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، تَحْقِيقَاً لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.
تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْنِي التَّمَسُّكَ بِحَبْلِ اللهِ تعالى المَتِينِ، وَأَنْ يَسِيرَ التَّقِيُّ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَبِينِ، حَتَّى يَجْتَازَ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَرَى صَحَائِفَ أَعْمَالِهِ، وَيَقُولَ: ﴿هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ﴾. وَعِندَهَا يَقُولُ: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
وَصِيَّةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَنَا:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَقْوَى اللهِ تعالى خَيْرُ ذُخْرٍ، وَخَيْرُ زَادٍ للقُدُومِ عَلَى عَالَمِ البَرْزَخِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، وَهِيَ سَبَبٌ للصِّدْقِ وَالقَوْلِ السَّدِيدِ، وَهِيَ أَكْبَرُ دَوَاعِمِ التَّعَاوُنِ وَالمَحَبَّةِ وَالإِيثَارِ بَيْنَ الخَلَائِقِ، وَهِيَ خَيْرُ لِبَاسٍ يَتَزَيَّنُ بِهَا العَبْدُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسَاً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشَاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.
وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:
إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابَاً مِنَ التُّقَى *** تَجَرَّدَ عُرْيَانَاً وَإِنْ كَانَ كَــاسِيَا
وَخَـيْـرُ خِصَالِ المَرْءِ طَاعَةُ رَبِّهِ *** وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ للهِ عَاصِيَا
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عُنْوَانُ الرِّفْعَةِ وَالسِّيَادَةِ وَالعِزَّةِ وَالكَرَامَةِ، فَوْقَ كُلِّ الجِنْسِيَّاتِ وَالقَبَلِيَّاتِ وَالأَعْرَاقِ وَالدِّمَاءِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
فَهَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُوَدِّعُ الأُمَّةَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ فَيَقُولُ: «اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَهِيَ وَصِيَّتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِمَن يُحِبُّ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى جَاءَتْ مِنَ اللهِ تعالى، وَمِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَلْ مِنَ المَوْتَى الذينَ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا، لَو قَدِرُوا عَلَى نُصْحِنَا، روى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْجَبَّانِ الْتَفَتَ إِلَى المَقْبَرَةِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَا أَهْلَ الْبَلَاءِ، يَا أَهْلَ الْوَحْشَةِ، مَا الْخَبَرُ عِنْدَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخَبَرَ عِنْدَنَا: قَدْ قُسِّمَتِ الأَمْوَالُ، وأُيْتِمَتْ الْأَوْلَادُ، وَاسْتُبْدِلَ بِالْأَزْوَاجِ، فَهَذَا الْخَبَرُ عِنْدَنَا؛ فَمَا الْخَبَرُ عِنْدَكُمْ؟
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ، فَقَالَ: يَا كُمَيْلُ، لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ لَقَالُوا: ﴿وتزودوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.
ثُمَّ بَكَى وَقَالَ لِي: يَا كُمَيْلُ، الْقَبْرُ صُنْدُوقُ الْعَمَلِ، وَعِنْدَ المَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَكْفِي شَرَفَاً للأَتْقِيَاءِ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبَاً عِنْدَ اللهِ تعالى فَلْيَكُنْ مِنَ المُتَّقِينَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأربعاء: 27/ شوال /1439هـ، الموافق: 11/ تموز / 2018م
اضافة تعليق |
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَحْرِفُ طَرِيقَ العَبْدِ عَنْ نَهْجِ الاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى هُوَ مَا رُكِّبَ في الإِنْسَانِ مِنْ شَهَوَاتٍ، حَيْتُ تَكُونُ سَبَبَاً في انْحِرَافِهِ إِذَا اسْتَوْلَتِ الشَّهَوَاتُ عَلَيْهِ. ... المزيد
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ إِنَّ فَلَاحَ العَبْدِ وَنَجَاحَهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ هُوَ مَطْلَبُ العَامِلِينَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَرْبِيَتِهَا وَتَطْهِيرِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا ... المزيد
نَحْنُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا مُسَافِرُونَ مِنْهَا، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ ... المزيد
مِنْ أَعْظَمِ الخُسْرَانِ الذي يَقَعُ فِيهِ العَبْدُ إِصْرَارُهُ عَلَى الذَّنْبِ، وَمُكَابَرَتُهُ، وَعِنَادُهُ، وَتَبْرِيرُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ المَوْتُ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ عَلَى تِلْكَ الحَالَةِ. ... المزيد
لَو أَنَّ الأَمْرَ كَانَ يَنْتَهِي بِالمَوْتِ لَكَانَ هَيِّنَاً وَسَهْلَاً، وَلَكِنْ مَعَ شِدَّتِهِ وَهَوْلِهِ هُوَ أَهْوَنُ مِمَّا بَعْدَ المَوْتِ، فَالقَبْرُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، أَو رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَلَو كَانَ ... المزيد
حَدِيثُ قَاتِلِ مِائَةِ نَفْسٍ يُعَلِّمُنَا دُرُوسَاً عَظِيمَةً، مِنْ أَهَمِّهَا الإِسْرَاعُ إلى التَّوبَةِ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَلِ، وَلَا يَدْرِي العَبْدُ مَتَّى يَنْتَهِي أَجَلُهُ ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدْرِي ... المزيد