28ـ ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنَّ المِحَنَ وَالابْتِلَاءَاتِ وَالشَّدَائِدَ لَا تَضُرُّ المُؤْمِنَ الحَقَّ، وَإِنْ لَقِيَ الأَذَى، فَهَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ لَقِيَ الأَذَى، وَعَاشَ في ظُلْمَةِ البِئْرِ، وَأُوذِيَ وَخَافَ وَمَشَى مَعَ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُهُمْ، وَتَغَرَّبَ عَنْ وَطَنِهِ، وَعَاشَ في بَلَدٍ لَا يَعْرِفُهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَهْلَهَا، وَبِيعَ في المَزَادِ العَلَنِيِّ كَمَا يُبَاعُ الرَّقِيقُ، فَهَلْ ضَرَّهُ هَذَا؟
عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ تَمَامَاً، فَبَعْدَ هَذِهِ المِحْنَةِ القَاسِيَةِ جَاءَ التَّكْرِيمُ، وَبِدَايَةُ العُلُوِّ وَالصُّعُودِ ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدَاً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
كَانَتْ هَذِهِ المِحْنَةُ بِدَايَةَ تَمْكِينٍ في الأَرْضِ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَتَعْلِيمِ الأَحَادِيثِ لَهُ، وَقَدْ عَقَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. فَالنَّاسُ لَا يَرْفَعُونَ وَلَا يَضَعُونَ، وَلَا يُقَدِّمُونَ وَلَا يُؤَخِّرُونَ، وَلَا يُقَرِّبُونَ وَلَا يُبْعِدُونَ، إِنَّمَا الأَمْرُ كُلُّهُ للهِ تعالى ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للهِ﴾.
كَمْ أَرَادَ النَّاسُ حِطَّةَ إِنْسَانٍ فَرَفَعَهُ اللهُ تعالى؟ وَكَمْ أَرَادُوا ضُرَّهُ فَنَفَعَهُ اللهُ تعالى؟ وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
نَعَمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ يَتَعَامَلُ مَعَ المِحْنَةِ تَعَامُلَاً سَلِيمَاً، مُمْتَثِلَاً أَمْرَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالصَّبْرِ عَلَى المَصَائِبِ، فَإِنَّ عَوَاقِبَ هَذِهِ المِحْنَةِ حَمِيدَةٌ وَمَرْضِيَّةٌ، عَرَفَ هَذَا مَنْ عَرَفَ، وَجَهِلَ هَذَا مَنْ جَهِلَ.
﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَعَلَّمْنَا مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنَّ البَلَاءَ وَالمِحْنَةَ قَدْ يَكُونُانِ سَبَبَ العِزُّ وَالتَّمْكِينُ وَالمِنْحَةُ، قَالَ تعالى في حَقِّ سَيِّدِنَا يُوسُفَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾.
مَنِ الذي مَكَّنَ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ في الأَرْضِ عَلَى الحَقِيقَةِ؟ الذي مَكَّنَهُ هُوَ القَائِلُ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
إِنْ كَانَ المَلِكُ قَالَ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾. صَدَقَ مِنْ حَيْثُ الأَسْبَابُ، وَلَكِنْ في الحَقِيقَةِ المُمَكِّنُ الحَقِيقِيُّ هُوَ اللهُ تعالى، الذي قَالَ في حَقِّ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ بَعْدَ بَيْعِهِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. مِنْ ذَاكَ الوَقْتِ أَخْبَرَ اللهُ تعالى عَنْ تَمْكِينِهِ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ أَكَّدَ تعالى أَنَّهُ المُمَكِّنُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ عَامَلَ خَلْقَ اللهِ تعالى بِالإِحْسَانِ عَامَلَهُ اللهُ تعالى بِالإِحْسَانِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مَا عَامَلَ إِخْوَتَهُ إِلَّا بِالإِحْسَانِ، رَغْمَ مَوَاقِفِهِمُ القَاسِيَةِ التي لَا تَخْطُرُ في بَالٍ، مَا اتَّقَوُا اللهَ في أَبِيهِمْ، وَمَا اتَّقَوُا اللهَ في أَخِيهِمْ، وَمَا اتَّقَوُا اللهَ في أَنْفُسِهِمْ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِخُلُقِ الإِحْسَانِ كَانَ مِنْ أَهْلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾.
وًصَاحِبُ الإِحْسَانِ لَا يُفَرِّقُ في إِحْسَانِهِ بَيْنَ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ، لَقَدْ قَابَلَ إِسَاءَةَ إِخْوَتِهِ بِخُلُقِ الإِحْسَانِ، كَمَا قَابَلَ المَلِكَ وَحَاشِيَتَهُ، وَزَوْجَةَ المَلِكِ وَالنِّسْوَةَ بِالإِحْسَانِ، مَا دَعَا عَلَى المَلِكِ وَزَوْجَتِهِ، وَمَا دَعَا عَلَى حَاشِيَةِ المَلِكِ، وَمَا دَعَا عَلَى النِّسَاءِ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَوْلُهُ تعالى: ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَانُونَاً لَنَا في سُلُوكِنَا الاجْتِمَاعِيِّ، وَأَنْ نَعْلَمَ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّ الإِحْسَانَ لَا يَضِيعُ غَرْسُهُ، وَلَنْ تَتَخَلَّى العِنَايَةُ الإِلَهِيَّةُ عَنِ المُحْسِنِ، مَهْمَا كَبَتْ بِهِ الحُظُوظُ، وَتَعَثَّرَتْ بِهِ في المَرَاحِلِ الأُولَى.
فَلْنَصْنَعِ المَعْرُوفَ في أَهْلِهِ وَفي غَيْرِ أَهْلِهِ، فَإِنْ صَادَفَ المَعْرُوفُ أَهْلَهُ فَهُمْ أَهْلٌ للمَعْرُوفِ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفِ المَعْرُوفُ أَهْلَهُ فَلْنَكُنْ نَحْنُ مِنْ أَهْلِ المَعْرُوفِ وَالإِحْسَانِ، وَمَا خَابَ وَمَا خَـسِرَ مَنْ كَانَ مِنَ المُحْسِنِينَ، فَالمُحْسِنُ عَزِيزٌ في الدُّنْيَا، وَعَزِيزٌ في الآخِرَةِ، مَهْمَا حَقَدَ عَلَيْهِ الحَاقِدُونَ، وَحَسَدَهُ الحَاسِدُونَ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ المُحْسِنِينَ. آمين.
تاريخ الكلمة
** ** **
الاثنين: 4/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 30/ كانون الأول / 2019م
الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد
مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد
ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد
حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد
وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد
يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد