83ـ شريح القاضي
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ.
لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ عَطَبٌ عَاقَهُ عَنْ مُوَاصَلَةِ الجَرْيِ، فَانْثَنَى بِهِ عَائِدًا مِنْ حَيْثُ انْطَلَقَ، وَقَالَ للرَّجُلِ: خُذْ فَرَسَكَ فَإِنَّهُ مَعْطُوبٌ.
فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا آخُذُهُ ـ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ ـ وَقَدْ بِعْتُهُ مِنْكَ سَلِيمًا صَحِيحًا.
فَقَالَ عُمَرُ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ حَكَمًا.
فَقَالَ الرَّجُلُ: يَحْكُمُ بَيْنَنَا شُرَيْحُ بْنُ الحَارِثِ الكِنْدِيُّ.
فَقَالَ عُمَرُ: رَضِيتُ.
احْتَكَمَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَصَاحِبُ الفَرَسِ إلى شُرَيْحٍ، فَلَمَّا سَمِعَ شُرَيْحٌ مَقَالَةَ الأَعْرَابِيِّ، الْتَفَتَ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وَقَالَ: هَلْ أَخَذْتَ الفَرَسَ سَلِيمًا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟
فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ.
فَقَالَ شُرَيْحٌ: احْتَفِظْ بَمَا اشْتَرَيْتَ ـ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ ـ أَو رُدَّ كَمَا أَخَذْتَ.
فَنَظَرَ عُمَرُ إلى شُرَيْحٍ مُعْجَبًا، وَقَالَ: وَهَلِ القَضَاءُ إِلَّا هَكَذَا؟! قَوْلٌ فَصْلٌ، وَحُكْمٌ عَدْلٌ؛ سِرْ إلى الكُوفَةِ، فَقَدْ وَلَّيْتُكَ قَضَاءَهَا.
لَم ْيَكُنْ شُرَيْحُ بْنُ الحَارِثِ يَوْمَ وَلَّاهُ عُمَرُ القَضَاءَ، رَجُلًا مَجْهُولَ المَقَامِ في المُجْتَمَعِ المَدَنِيِّ، أَوِ امْرَءًا مَغْمُورَ المَنْزِلَةِ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ مِنْ جِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ.
فَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ الفَضْلِ وَأَهْلُ السَّابِقَةِ يُقَدِّرُونَ لِشُرَيْحٍ فِطْنَتَهُ الحَادَةَ وَذَكَاءَهُ الفَذَّ، وَخُلُقَهُ الرَّفِيعَ، وَطُولَ تَجْرِبَتِهِ في الحَيَاةِ وَعُمْقَهَا.
فَهُوَ رَجُلٌ يَمَنِيُّ المَوْطِنِ، كِنْدِيُّ العَشِيرَةِ، قَضَى شَطْرًا غَيْرَ يَسِيرٍ مِنْ حَيَاتِهِ في الجَاهِلِيَّةِ.
فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الجَزِيرَةُ العَرَبِيَّةُ بِنُورِ الهِدَايَةِ، وَنَفَذَتْ أَشِعَّةُ الإِسْلَامِ إلى أَرْضِ اليَمَنِ، كَانَ شُرَيْحٌ مِنْ أَوَائِلِ المُؤْمِنِينَ بِاللهِ تعالى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، المُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَةِ الهُدَى وَالحَقِّ.
وَكَانَ عَارِفُو فَضْلِهِ وَمُقَدِّرُو شَمَائِلِهِ وَمَزَايَاهُ، يَأْسَوْنَ عَلَيْهِ أَشَدَّ الأَسَى، وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ لَو أُتِيحَ لَهُ أَنْ يَفِدَ عَلَى المَدِينَةِ مُبَكِّرًا لِيَلْقَى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى، وَلِيَنْهَلَ مِنْ مَوَارِدِهِ الصَّافِيَةِ المُصَفَّاةِ مُبَاشَرَةً لَا بِالوَسَاطَةِ.
وَلِكَيْ يَحْظَى بِشَرَفِ الصُّحْبَةِ بَعْدَ أَنْ حَظِيَ بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ؛ وَبِذَلِكَ يَجْمَعُ الخَيْرَ مِنْ أَطْرَافِهِ، وَلَكِنَّ مَا قُدِّرَ كَانَ.
وَلَمْ يَكُنِ الفَارُوقُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ مُتَعَجِّلًا حِينَ عَهِدَ بِمَنْصِبٍ مِنْ مَنَاصِبِ القَضَاءِ الكُبْرَى لِرَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ سَمَاءَ الإِسْلَامِ كَانَتْ يَوْمَئِذٍ مَا تَزَالُ تَتَأَلَّقُ بِالنُّجُومِ الزُّهْرِ مِنْ صَحَابَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ أَثْبَتَتِ الأَيَّامُ صِدْقَ فِرَاسَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَصَوَابَ تَدْبِيرِهِ.
إِذْ ظَلَّ شُرَيْحٌ يَقْضِي بَيْنَ المُسْلِمِينَ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ عَامًا مُتَتَابِعَةً مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ.
وَقَدْ تَعَاقَبَ عَلَى إِقْرَارِهِ في مَنْصِبِهِ كُلٌّ مِنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
كَمَا أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ جَاءَ بَعْدَ مُعَاوِيَةَ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، حَتَّى طَلَبَ الرَّجُلُ إِعْفَاءَهُ مِنْ مَنْصِبِهِ إِبَّانَ وَلَايَةِ الحَجَّاجِ.
وَكَانَ قَدْ بَلَغَ السَّابِعَةَ بَعْدَ المِئَةِ مِنْ حَيَاتِهِ المَدِيدَةِ الرَّشِيدَةِ الحَافِلَةِ بِالمَفَاخِرِ وَالمَآثِرِ.
وَلَقَدِ ازْدَانَ تَارِيخُ القَضَاءِ في الإِسْلَامِ بِبَدَائِعَ مِنْ مَوَاقِفِ شُرَيْحٍ، وَزَهَا بِرَوَائِعَ مِنِ انْصِيَاعِ خَاصَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ لِشَرْعِ اللهِ الذي يُمَثِّلُهُ شُرَيْحٌ، وَنُزُولِهِمْ عِنْدَ أَحْكَامِهِ.
وَامْتَلَأَتْ بُطُونُ الكُتُبِ بِطَرَائِفِ هَذَا الرَّجُلِ الفَذِّ وَأَخْبَارِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ افْتَقَدَ دِرْعًا لَهُ كَانَتْ أَثِيرَةً عِنْدَهُ غَالِيَةً عَلَيْهِ.
ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ وَجَدَهَا في يَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَبِيعُهَا في سُوقِ الكُوفَةِ؛ فَلَمَّا رَآهَا عَرَفَهَا وَقَالَ: هَذِهِ دِرْعِي سَقَطَتْ عَنْ جَمَلٍ لِي في لَيْلَةِ كَذَا، وَفي مَكَانَ كَذَا.
فَقَالَ الذِّمِّيُّ: بَلْ هِيَ دِرْعِي وَفي يَدِي يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا هِيَ دِرْعِي لَمْ أَبِعْهَا مِنْ أَحَدٍ، وَلَمْ أَهَبْهَا لِأَحَدٍ حَتَّى تَصِيرَ إِلَيْكَ.
فَقَالَ الذِّمِّيُّ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَاضِي المُسْلِمِينَ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنْصَفْتَ؛ فَهَلُمَّ إِلَيْهِ.
ثُمَّ إِنَّهُمَا ذَهَبَا إِلَى شُرَيْحٍ القَاضِي، فَلَمَّا صَارَا عِنْدَهُ في مَجْلِسِ القَضَاءِ، قَالَ شُرَيْحٌ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا تَقُولُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ: لَقَدْ وجَدْتُ دِرْعِي هَذِهِ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ، وَقَدْ سَقَطَتْ مِنِّي في لَيْلَةِ كَذَا، وَفي مَكَانِ كَذَا، وَهِيَ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِ لَا بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ.
فَقَالَ شُرَيْحٌ للذِّمِّيِّ: وَمَا تَقُولُ أَنْتَ أَيُّهَا الرَّجُلُ؟
فَقَالَ: الدِّرْعُ دِرْعِي وَهِيَ فِي يَدِي، وَلَا أَتَّهمُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بِالكَذِبِ.
فَالْتَفَتَ شُرَيْحٌ إلى عَلِيٍّ وَقَالَ: لَا رَيْبَ عِنْدِي في أَنَّكَ صَادِقٌ فِيمَا تَقُولُهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الدِّرْعَ دِرْعُكَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْتَ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ؛ مَوْلَايَ قَنْبَرٌ، وَوَلَدِي الحَسَنُ يَشْهَدَانِ لِي.
فَقَالَ شُرَيْحٌ: وَلَكِنَّ شَهَادَةَ الابْنِ لَا تَجُوزُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا سُبْحَانَ اللهِ!! رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَقَالَ شُرَيْحٌ: بَلَى يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أُجِيزُ شَهَادَةَ الوَلَدِ لِوَالِدِهِ.
عِنْدَ ذَلِكَ الْتَفَتَ عَلِيٌّ إلى الذِّمِّيِّ وَقَالَ: خُذْهَا، فَلَيْسَ عِنْدِي شَاهِدٌ غَيْرُهُمَا.
فَقَالَ الذِّمِّيُّ: وَلَكِنِّي أَشْهَدُ بِأَنَّ الدِّرْعَ لَكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؛ ثُمَّ أَرْدَفَ قَائِلًا: يَالَـلَّهُ، أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ يُقَاضِينِي أَمَامَ قَاضِيهِ، وَقَاضِيهِ يَقْضِي لِي عَلَيْهِ؛ أَشْهَدُ أَنَّ الدِّينَ الذي يَأْمُرُ بِهَذَا لَحَقٌّ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
اعْلَمْ أَيُّهَا القَاضِي، أَنَّ الدِّرْعَ دِرْعُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَّنِي اتَّبَعْتُ الجَيْشَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إلى صِفِّينَ، فَسَقَطَتِ الدِّرْعُ عَنْ جَمَلَهِ الأَوْرَقِ (الذي لَوْنُهُ لَوْنُ الرَّمَادِ) فَأَخَذْتُهَا.
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَمَا وَإِنَّكَ قَدْ أَسْلَمْتَ فَإِنِّي وَهَبْتُهَا لَكَ، وَوَهَبْتُ لَكَ مَعَهَا هَذَا الفَرَسَ أَيْضًا.
وَلَمْ يَمْضِ عَلَى هَذَا الحَادِثِ زَمَنٌ طَوِيلٌ، حَتَّى شُوهِدَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ الخَوَارِجَ تَحْتَ رَايَةِ عَلِيٍّ في يَوْمِ النَّهْرَوَانِ، وَيُمْعِنُ في القِتَالِ حَتَّى كُتِبَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ.
وَمِنْ رَوَائِعِ شُرَيْحٍ أَيْضًا أَنَّ ابْنَهُ قَالَ لَهُ يَوْمًا: يَا أَبَتِ، إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمٍ خُصُومَةً، فَانْظُرْ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الحَقُّ لِي قَاضَيْتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ صَالَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ.
فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ فَقَاضِهِمْ.
فَمَضَى إلى خُصُومِهِ، وَدَعَاهُمْ إلى المُقَاضَاةِ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ.
وَلَمَّا مَثُلُوا بَيْنَ يَدَيْ شُرَيْحٍ، قَضَى لَهُمْ عَلَى وَلَدِهِ.
فَلَمَّا رَجَعَ شُرَيْحٌ وَابْنُهُ إلى البَيْتِ قَالَ الوَلَدُ لِأَبِيهِ: فَضَحْتَنِي يَا أَبَتِ، وَاللهِ لَو لَمْ أَسْتَشِرْكَ مِنْ قَبْلُ لَمَا لُمْتُكَ.
فَقَالَ شُرَيْحٌ: يَا بُنَيَّ، وَاللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِنْ أَمْثَالِهِمْ، وَلَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أُخْبِرَكَ بِأَنَّ الحَقَّ لَهُمْ، فَتُصَالِحَهُمْ صُلْحًا يُفَوِّتُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ حَقِّهِمْ، فَقُلْتُ لَكَ مَا قُلْتُ.
وَقَدْ كَفَلَ وَلَدٌ لِشُرَيْحٍ رَجُلًا فَقَبِلَ كَفَالَتَهُ، فَمَا كَانَ مِنَ الرَّجُلِ إِلَّا أَنْ فَرَّ هَارِبًا مِنْ يَدِ القَضَاءِ.
فَسَجَنَ شُرَيْحٌ وَلَدَهُ بِالرَّجُلِ الفَارِّ؛ وَكَانَ يَنْقُلُ لَهُ طَعَامَهُ بِيَدِهِ كُلَّ يَوْمٍ إلى السِّجْنِ.
وَكَانَتِ الشُّكُوكُ تُسَاوِرُ شُرَيْحًا ـ أَحْيَانًا ـ في بَعْضِ الشُّهُودِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ سَبِيلًا لِدَفْعِ شَهَادَتِهِمْ، لِمَا تَوَافَرَ لَهُمْ مِنْ شُرُوطِ العَدَالَةِ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْلُوا بِشَهَادَتِهِمْ: اسْمَعُوا مِنِّي هَدَاكُمُ اللهُ، إِنَّمَا يَقْضِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ أَنْتُمْ، وَإِنِّي لَأَتَّقِي النَّارَ بِكُمْ، وَأَنْتُمْ بِاتِّقَائِهَا أَوْلَى، وَإِنَّ في وُسْعِكُمُ الآنَ أَنْ تَدَعُوا الشَّهَادَةَ وَتَمْضُوا.
فَإِذَا أَصَرُّوا عَلَى الشَّهَادَةِ الْتَفَتَ إلى الذي يَشْهَدُونَ لَهُ، وَقَالَ: اعْلَمْ يَا هَذَا أَنَّنِي أَقْضِي لَكَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنِّي لَأَرَى أَنَّكَ ظَالِمٌ، وَلَكِنِّي لَسْتُ أَقْضِي بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَإِنَّ قَضَائِي مَا يُحِلُّ لَكَ شَيْئًا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْكَ.
وَكَانَ الشِّعَارُ الذي يُرَدِّدُهُ شُرَيْحٌ في مَجَالِسِ قَضَائِهِ قَوْلَهُ: غَدًا سَيَعْلَمُ الظَّالِمُ مَنِ الخَاسِرُ؟ إِنَّ الظَّالِمَ يَنْتَظِرُ العِقَابَ، وَإِنَّ المَظْلُومَ يَنْتَظِرُ النَّصَفَةَ.
وَإِنِّي أَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ أَحَسَّ بِفَقْدِهِ.
وَلَمْ يَكُنْ شُرَيْحٌ نَاصِحًا للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا كَانَ نَاصِحًا لِعَامَّةِ المُسْلِمِينَ وَخَاصَّتِهِمْ أَيْضًا.
رَوَى أَحَدُهُمْ قَالَ: سَمِعَنِي شُرَيْحٌ وَأَنَا أَشْتَكِي بَعْضَ مَا غَمَّنِي لِصَدِيقٍ، فَأَخَذَنِي مِنْ يَدِي وَانْتَحَى بِي جَانِبًا، وَقَالَ: يَا بْنَ أَخِي، إِيَّاكَ وَالشَّكْوَى لِغَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ مَنْ تَشْكُو إِلَيْهِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ صَدِيقًا أَو عَدُوًّا، فَأَمَّا الصَّدِيقُ فَتُحْزِنُهُ، وَأَمَّا العَدُوُّ فَيَشْمَتُ بِكَ.
ثُمَّ قَالَ: انْظُرْ إلى عَيْنِي هَذِهِ ـ وَأَشَارَ إلى إِحْدَى عَيْنَيْهِ ـ فَوَاللهِ مَا أَبْصَرْتُ بِهَا شَخْصًا وَلَا طَرِيقًا مُنْذُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَكِنِّي مَا أَخْبَرْتُ أَحَدًا بِذَلِكَ إِلَّا أَنْتَ في هَذِهِ السَّاعَةِ.
أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ العَبْدِ الصَّالِحِ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾. فَاجْعَلِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَشْكَاكَ وَمَحْزَنَكَ عِنْدَ كُلِّ نَائِبَةٍ تَنُوبُكَ، فَإِنَّهُ أَكْرَمُ مَسْؤُولٍ وَأَقْرَبُ مَدْعُوٍّ.
وَقَدْ رَأَى ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلًا يَسْأَلُ آخَرَ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ: يَا بْنَ أَخِي، مَنْ سَأَلَ إِنْسَانًا حَاجَةً فَقَدْ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى الرِّقِّ، فَإِنْ قَضَاهَا لَهُ المَسْؤُولُ فَقَدِ اسْتَعْبَدَهُ بِهَا، وَإِنْ رَدَّهُ عَنْهَا رَجَعَ كِلَاهُمَا ذَلِيلًا، هَذَا بِذُلِّ البُخْلِ، وَذَاكَ بِذُلِّ الرَّدِّ؛ فَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ وَلَا عَوْنَ إِلَّا بِاللهِ.
وَقَدْ وَقَعَ بِالكُوفَةِ طَاعُونٌ، فَخَرَجَ صَدِيقٌ لِشُرَيْحٍ مِنْهَا إلى النَّجَفِ، يَبْتَغِي المَهْرَبَ مِنَ الوَبَاءِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ شُرَيْحٌ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ المَوْضِعَ الذي تَرَكْتَهُ لَا يُقَرِّبُ حِمَامَكَ، وَلَا يَسْلُبُ مِنْكَ أَيَّامَكَ، وَإِنَّ المَوْضِعَ الذي صِرْتَ إِلَيْهِ في قَبْضَةِ مَنْ لَا يُعْجِزُهُ طَلَبٌ، وَلَا يَفُوتُهُ هَرَبٌ، وَإِنَّا وَإِيَّاكَ لَعَلَى بِسَاطِ مَلِكٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ النَّجَفَ مِنْ ذِي قُدْرَةٍ لَقَرِيبٌ.
وَكَانَ شُرَيْحٌ إلى ذَلِكَ كُلِّهِ شَاعِرًا، قَرِيبَ المَأْخَذِ، حُلْوَ الأَدَاءِ، طَرِيفَ المَوْضُوعَاتِ.
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صَبِيٌّ في نَحْوِ العَاشِرَةِ مِنْ عُمُرِهِ، وَكَانَ الصَّبِيُّ مُؤْثِرًا اللَّهْوَ، مُولَعًا بِاللَّعِبِ.
فَافْتَقَدَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا هُوَ قَدْ تَرَكَ الكُتَّابَ وَمَضَى يَتَفَرَّجُ عَلَى الكِلَابِ، فَلَمَّا عَادَ إلى المَنْزِلِ سَأَلَهُ: أَصَلَّيْتَ؟
فَقَالَ: لَا.
فَدَعَا بِقِرْطَاسٍ وَقَلَمٍ، وَكَتَبَ إلى مُؤَدِّبِهِ يَقُولُ:
تَـرَكَ الـصَّلَاةَ لِأَكْلُبٍ يَسْعَى بِهَا *** يَـبْغِي الْهِرَاشَ مَعَ الْغُوَاةِ الرُّجَّسِ
فَـلَــيَأْتِيَنَّكَ غُـدْوَةً بِـصَـحِـيفَـةٍ *** كُـــتِبَتْ لَــهُ كَـصَحِيفَةِ المُتَلَمِّسِ
فَـإِذَا أَتَــاكَ فَــدَاوِهِ بِـمَــلَامَـةٍ *** أَوْ عِــظْهُ مَوْعِظَةَ الْأَدِيبِ الكَيِّسِ
وَإِذَا هَــمَــمْتَ بِــضَرْبِهِ فَـبِدِرَّةٍ *** وَإِذَا بَــلَغْتَ ثَـلَاثَةً لَكَ فَـاحْبِسِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ ـ مَا أَتَيْتَ ـ فَــنَفْسُهُ *** مَــعَ مَــا يُـجَرِّعُنِي أَعَزُّ الْأَنْـفُسِ
رَضِيَ اللهُ عَنِ الفَارُوقِ، فَقَدْ زَانَ مَفْرِقَ القَضَاءِ في الإِسْلَامِ بِلُؤْلُؤَةٍ كَرِيمَةِ الأَعْرَاقِ، صَافِيَةِ الجَوْهَرِ، رَائِعَةِ المُجْتَلَى.
وَحَبَا المُسْلِمِينَ مِصْبَاحًا مُنِيرًا، مَا زَالُوا حَتَّى اليَوْمَ يَسْتَضِيئُونَ بِسَنَا فِقْهِهِ لِشَرْعِ اللهِ، وَيَهْتَدُونَ بِنُورِ فَهْمِهِ لِسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيُبَاهُونَ بِهِ الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَرَحِمَ اللهُ شُرَيْحًا القَاضِيَ، فَقَدْ أَقَامَ العَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ سِتِّينَ عَامًا، فَمَا حَافَ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا حَادَ عَنْ حَقٍّ، وَلَا مَيَّزَ بَيْنَ مَلِكٍ وَسُوقَةٍ.
** ** **
تاريخ الكلمة:
يوم الاثنين: 18/ شوال / 1444 هـ، الموافق: 8/ أيار / 2023 م
ارسل إلى صديق |
حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد
وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد
يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد
يَرْوِي دُكَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الرُّجَّازِ البُدَاةِ فَيَقُولُ: امْتَدَحْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ يَوْمَ كَانَ وَالِيًا عَلَى المَدِينَةِ، فَأَمَرَ لِي بِخَمْسَ عَشْرَةَ نَاقَةً مِنْ كَرَائِمِ الإِبِلِ. ... المزيد
يَرْوِي العَابِدُ الزَّاهِدُ زِيَاد بْنُ مَيْسَرَةَ المَخْزُومِيُّ بِالوَلَاءِ فَيَقُولُ: أَرْسَلَنِي مَوْلَايَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَيَّاشٍ مِنَ المَدِينَةِ إلى دِمَشْقَ لِلِقَاءِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ في حَوَائِجَ ... المزيد
صَعِدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المِنْبَرَ، وَقَالَ في أَوَّلِ لِقَاءٍ مَعَ الأُمَّةِ بَعْدَ اسْتِخْلَافِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدِ ابْتُلِيتُ بِهَذَا الْأَمْرِ عَنْ غَيْرِ رَأْيٍ كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ، وَلَا ... المزيد