81ـ أتحلف من أجل درهمين

81ـ أتحلف من أجل درهمين

81ـ أتحلف من أجل درهمين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ؛ وَلَمَّا أَيْفَعَ (تَرَعْرَعَ وَقَارَبَ البُلُوغَ) الغُلَامُ الأَرِيبُ اللَّبِيبُ، وَجَدَ مَسْجِدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَزْخَرُ (يَمْتَلِئُ) بِالبَقِيَّةِ البَاقِيَةِ مِنْ كِرَامِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَمْثَالِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنِ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا.

فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ إِقْبَالَ الظَّامِي عَلَى المَوْرِدِ العَذْبِ، وَنَهَلَ مِنْ عِلْمِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ تعالى، وَفِقْهِهِمْ بِدِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرِوَايَتِهِمْ لِحَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَا أَفْعَمَ (مَلَأَ) عَقْلَهُ حِكْمَةً وَعِلْمًا، وَأَتْرَعَ نَفْسَهُ صَلَاحًا وَهَدْيًا؛ ثُمَّ انْتَقَلَتِ الأُسْرَةُ مَعَ فَتَاهَا الفَذِّ (الفَرِيدِ المُتَمَيِّزِ) إلى البَصْرَةِ وَاتَّخَذَتْهَا لَهَا مَوْطِنًا.

كَانَتِ البَصْرَةُ يَوْمَئِذٍ مَدِينَةً شَابَّةً بِكْرًا، فَقَدِ اخْتَطَّهَا المُسْلِمُونَ في أَوَاخِرِ خِلَافَةِ الفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَتْ تُمَثِّلُ جُلَّ (أَكْثَرَ) خَصَائِصِ الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ في ذَلِكَ العَصْرِ، فَهِيَ قَاعِدَةٌ عَسْكَرِيَّةٌ لِجُيُوشِ المُسْلِمِينَ الغَازِيَةِ في سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ مَرْكَزٌ مِنْ مَرَاكِزِ التَّعْلِيمِ وَالتَّوْجِيهِ للدَّاخِلِينَ في دِينِ اللهِ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ وَفَارِسَ.

وَهِيَ صُورَةٌ للمُجْتَمَعِ الإِسْلَامِيِّ الجَادِّ الذي يَعْمَلُ لِدُنْيَاهُ كَأَنَّهُ يَعِيشُ أَبَدًا، وَيَعْمَلُ لِأُخْرَاهُ كَأَنَّهُ يَمُوتُ غَدًا.

سَلَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ في حَيَاتِهِ الجَدِيدَةِ في البَصْرَةِ طَرِيقَيْنِ مُتَوَازِيَيْنِ مُتَوَازِنَيْنِ: فَجَعَلَ شَطْرًا مِنْ يَوْمِهِ للعِلْمِ وَالعِبَادَةِ، وَشَطْرًا آخَرَ للكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ.

فَكَانَ إِذَا انْبَلَجَ الفَجْرُ وَأَشْرَقَتِ الدُّنْيَا بِنُورِ رَبِّهَا، غَدَا إلى مَسْجِدِ البَصْرَةِ يُعَلِّمُ وَيَتَعَلَّمُ؛ حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ مَضَى مِنَ المَسْجِدِ إلى السُّوقِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي؛ فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ وَأَرْخَى عَلَى الكَوْنِ سُدُولَهُ (أَسْتَارَهُ) صَفَّ في مِحْرَابِ بَيْتِهِ، وَانْحَنَى عَلَى أَجْزَاءِ القُرْآنِ بِصُلْبِهِ، وَبَكَى مِنْ خَشْيَةِ الرَّحْمَنِ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ وَقَلْبِهِ، حَتَّى يُشْفِقَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ وَجِيرَانُهُ الأَدْنَوْنَ، لِمَا يَسْمَعُونَ مِنَ نَحِيبِهِ الذي يَقْطَعُ نِيَاطَ القُلُوبِ (جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نُوطٌ، وَهُوَ عِرْقٌ مُعَلَّقٌ بِالقَلْبِ إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ الإِنْسَانُ).

وَكَانَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالسُّوقِ في النَّهَارِ للبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، لَا يَفْتَأُ يُذَكِّرُ النَّاسَ بِالآخِرَةِ، وَيُبَصِّرُهُمْ بِالدُّنْيَا، وَيُرْشِدُهُمْ إلى مَا يُقَرِّبُهُمْ إلى اللهِ تَبَارَكَ وتعالى، وَيَفْصِل فِيمَا يَشْجُرُ بَيْنَهُمْ (فِيمَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ) مِنْ خِلَافٍ، وَكَانَ يُطْرِفُهُمْ (يَأْتِيهِمْ بِالحَدِيثِ المُسْتَحْسَنِ) بَيْنَ الحِينِ وَالآخَرِ بِالمُلْحَةِ (مَا لَذَّ مِنَ الأَحَادِيثِ) التي تَمْسَحُ الهَمَّ عَنْ نُفُوسِهِمُ المَكْدُودَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ ذَلِكَ مِنْ هَيْبَتِهِ وَوَقَارِهِ عِنْدَهُمْ شَيْئًا، فَقَدْ وَهَبَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَدْيًا وَسَمْتًا، وَمَنَحَهُ قَبُولًا وَتَأْثِيرًا، فَكَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْهُ في السُّوقِ وَهُمْ غَارِقُونَ غَافِلُونَ انْتَبَهُوا، فَذَكَرُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَلَّلُوا وَكَبَّرُوا.

وَكَانَتْ سِيرَتُهُ العَمَلِيَّةُ خَيْرَ مُرْشِدٍ للنَّاسِ، فَمَا عَرَضَ لَهُ أَمْرَانِ في تِجَارَتِهِ إِلَّا أَخَذَ بِأَوْثَقِهِمَا في دِينِهِ، وَلَو كَانَتْ فِيهِ خَسَارَةٌ تُصِيبُ دُنْيَاهُ.

وَكَانَتْ دِقَّةُ فَهْمِهِ لِأَسْرَارِ الدِّينِ، وَصِحَّةُ نَظْرَتِهِ إلى مَا يَحِلُّ وَمَا لَا يَحِلُّ تَدْفَعُهُ أَحْيَانًا إلى بَعْضِ المَوَاقِفِ التي تَبْدُو غَرِيبَةً لِعُيُونِ النَّاسِ.

مِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَيْهِ كَذِبًا أَنَّ لَهُ في ذِمَّتِهِ دِرْهَمَيْنِ، فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهُمَا.

فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَتَحْلِفُ؟

وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مِنْ أَجْلِ دِرْهَمَيْنِ؛ فَقَالَ: نَعَمْ، وَحَلَفَ لَهُ.

فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتَحْلِفُ مِنْ أَجْلِ دِرْهَمَيْنِ؟! وَأَنْتَ الذي تَرَكْتَ أَمْسِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ في شَيْءٍ رَابَكَ، مِمَّا لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُكَ.

فَقَالَ: نَعَمْ أَحْلِفُ، فَإِنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أُطْعِمَهُ حَرَامًا، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ.

وَكَانَ مَجْلِسُ ابْنِ سِيرِينَ مَجْلِسَ خَيْرٍ وَبِرٍّ وَمَوْعِظَةٍ، فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ بِسَيِّئَةٍ، بَادَرَ فَذَكَرَهُ بِأَحْسَنِ مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ.

بَلْ إِنَّهُ سَمِعَ أَحَدَهُمْ يَسُبُّ الحَجَّاجَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ: صَهْ، يَابْنَ أَخِي، فَإِنَّ الحَجَّاجَ مَضَى إلى رَبِّهِ، وَإِنَّكَ حِينَ تَقْدُمُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سَتَجِدُ أَنَّ أَحْقَرَ ذَنْبٍ ارْتَكَبْتَهُ في الدُّنْيَا أَشَدُّ عَلَى نَفْسِكَ مِنْ أَعْظَمِ ذَنْبٍ اجْتَرَحَهُ الحَجَّاجُ؛ فَلِكُلٍّ مِنْكُمَا شَأْنٌ يُغْنِيهِ.

وَاعْلَمْ يَابْنَ أَخِي، أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ سَوْفَ يَقْتَصُّ مِنَ الحَجَّاجِ لِمَنْ ظَلَمَهُمْ كَمَا سَيَقْتَصُّ للحَجَّاجِ مِمَّنْ يَظْلِمُونَهُ، فَلَا تَشْغَلَنَّ نَفْسَكَ بَعْدَ اليَوْمِ بِسَبِّ أَحَدٍ.

وَكَانَ إِذَا جَاءَهُ رَجُلٌ مُوَدِّعًا في سَفَرٍ لِتَجَارَةٍ قَالَ لَهُ: يَابْنَ أَخِي، اتَّقِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَاطْلُبْ مَا قُدِّرَ لَكَ مِنْ طَرِيقٍ حَلَالٍ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ تَطْلُبْهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ لَمْ تُصِبْ أَكْثَرَ مِمَّا قُدِّرَ لَكَ.

وَلَقَدْ كَانَتْ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مَعَ وُلَاةِ بَنِي أُمَيَّةَ مَوَاقِفُ مَشْهُودَةٌ صَدَعَ فِيهَا بِكَلِمَةِ الحَقِّ، وَأَخْلَصَ النُّصْحَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ.

مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ الفَزَارِيَّ رَجُلَ بَنِي أُمَيَّةَ الكَبِيرَ وَوَالِيَهُمْ عَلَى العِرَاقَيْنِ بَعَثَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إلى زِيَارَتِهِ، فَمَضَى إِلَيْهِ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ.

فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ رَحَّبَ بِهِ الوَالِي وَأَكْرَمَ وِفَادَتَهُ وَرَفَعَ مَجْلِسَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شُؤُونِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَرَكْتَ أَهْلَ مِصْرِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟

فَقَالَ: تَرَكْتُهُمْ وَالظُّلْمُ فِيهِمْ فَاشٍ، وَأَنْتَ عَنْهُمْ لَاهٍ.

فَغَمَزَهُ ابْنُ أَخِيهِ بِمَنْكِبِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ الذي تُسْأَلُ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا الذي أُسْأَلُ؛ وَإِنَّهَا لَشَهَادَةٌ: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾.

وَلَمَّا انْفَضَّ المَجْلِسُ، وَدَّعَهُ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ بِمِثْلِ مَا اسْتَقْبَلَهُ مِنْ حَفَاوَةٍ وَإِجْلَالٍ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِكِيسٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَأْخُذْهَا.

فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَخِيهِ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَقْبَلَ هِبَةَ الأَمِيرِ؟!

فَقَالَ: إِنَّمَا أَعْطَانِي لِخَيْرٍ ظَنَّهُ بِي، فَإِنْ كُنْتُ مِنْ أَهْلِ الخَيْرِ كَمَا ظَنَّ فَمَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَقْبَلَ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا ظَنَّ، فَأَحْرَى بِي أَلَّا أَسْتَبِيحَ قَبُولَ ذَلِكَ.

وَلَقَدْ شَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْلُوَ صِدْقَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَصَبْرَهُ، فَعَرَّضَهُ لِمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ المُؤْمِنُونَ مِنَ المِحَنِ.

مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَرَى ذَاتَ مَرَّةٍ زَيْتًا بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا مُؤَجَّلَةً، فَلَمَّا فَتَحَ أَحَدَ زِقَاقِ الزَّيْتِ، وَجَدَ فِيهِ فَأْرًا مَيِّتًا مُتَفَسِّخًا، فَقَالَ في نَفْسِهِ: إِنَّ الزَّيْتَ كُلَّهُ كَانَ في المَعْصَرَةِ في مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ النَّجَاسَةَ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِهَذَا الزِّقِّ دُونَ سِوَاهُ، وَإِنِّي إِنْ رَدَدْتُهُ للبَائِعِ بِالعَيْبِ، فَرُبَّمَا بَاعَهُ للنَّاسِ، ثُمَّ أَرَاقَهُ كُلَّهُ.

وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ في وَقْتٍ كَانَ يَشْكُو فِيهِ مِنْ خَسَارَةٍ كَبِيرَةٍ حَلَّتْ بِهِ، فَرَكِبَهُ الدَّيْنُ، وَطَالَبَهُ صَاحِبُ الزَّيْتِ بِمَالِهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ سَدَادَهُ، فَرَفَعَ أَمْرَهُ إلى الوَالِي، فَأَمَرَ بِحَبْسِهِ حَتَّى يُسَدِّدَ مَا عَلَيْهِ.

فَلَمَّا صَارَ في السِّجْنِ وَطَالَ مُكُوثُهُ فِيهِ، أَشْفَقَ عَلَيْهِ السَّجَّانُ لِمَا عَلِمَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ، وَمَا رَأَى مِنْ شِدَّةِ وَرَعِهِ وَطُولِ عِبَادَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، إِذَا كَانَ اللَّيْلُ فَاذْهَبْ إلى أَهْلِكَ وَبِتْ مَعَهُمْ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَعُدْ إِلَيَّ، وَاسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُطْلَقَ سَرَاحُكَ.

فَقَالَ لَهُ: لَا وَاللهِ لَا أَفْعَلُ.

فَقَالَ السَّجَّانُ: وَلِمَ، هَدَاكَ اللهُ؟!

فَقَالَ لَهُ: حَتَّى لَا أُعَاوِنَكَ عَلَى خِيَانَةِ وَلِيِّ الأَمْرِ.

وَلَمَّا احْتُضِرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَوْصَى بِأَنْ يَغْسِلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَا يَزَالُ سَجِينًا.

فَلَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ النَّاسُ إلى الوَالِي وَأَخْبَرُوهُ بِوَصِيَّةِ صَاحِبِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَخَادِمِهِ، وَاسْتَأْذَنُوهُ في أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ لِإِنْفَاذِ الوَصِيَّةِ؛ فَأَذِنَ لَهُ.

فَقَالَ لَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: لَا أَخْرُجُ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا صَاحِبَ الدَّيْنِ، فَإِنَّمَا حُبِسْتُ بِمَا لَهُ عَلَيَّ مِنَ الحَقِّ؛ فَأَذِنَ لَهُ الدَّائِنُ أَيْضًا.

عِنْدَ ذَلِكَ خَرَجَ مِنْ سِجْنِهِ فَغَسَلَ أَنَسًا، وَكَفَّنَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ؛ ثُمَّ رَجَعَ إلى السِّجْنِ كَمَا هُوَ، وَلَمْ يَذْهَبْ لِرُؤْيَةِ أَهْلِهِ.

عُمِّرَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَتَّى بَلَغَ السَّابِعَةَ وَالسَّبْعِينَ؛ فَلَمَّا أَتَاهُ اليَقِينُ وَجَدَهُ خَفِيفَ الحِمْلِ مِنْ أَعْبَاءِ الدُّنْيَا، كَثِيرَ الزَّادِ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ.

حَدَّثَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ رَاشِدٍ، وَكَانَتْ مِنَ العَابِدَاتِ فَقَالَتْ: كَانَ مَرْوَانُ المَحْمَلِيُّ لَنَا جَارًا، وَكَانَ نَاصِبًا في العِبَادَةِ مُجْتَهِدًا في الطَّاعَةِ.

فَلَمَّا مَاتَ حَزِنَّا عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، فَرَأَيْتُهُ في المَنَامِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟

فَقَالَ: أَدْخَلَنِي الجَنَّةَ.

قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟

فَقَالَ: ثُمَّ رُفِعْتُ إلى أَصْحَابِ اليَمِينِ.

قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟

قَالَ: ثُمَّ رُفِعْتُ إلى المُقَرَّبِينَ.

قُلْتُ: فَمَنْ رَأَيْتَ هُنَاكَ؟

قَالَ: الحَسَنَ البَصْرِيَّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ.

**   **    **

تاريخ الكلمة:

يوم الأربعاء: 21/ رمضان / 1444 هـ، الموافق: 12/ نيسان / 2023 م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 336 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 336
31-07-2023 366 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 366
08-05-2023 596 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 596
19-04-2023 455 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 455
11-04-2023 412 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 412
11-04-2023 324 مشاهدة
79ـ أشهد لي بذلك أيها أمير

يَرْوِي دُكَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الرُّجَّازِ البُدَاةِ فَيَقُولُ: امْتَدَحْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ يَوْمَ كَانَ وَالِيًا عَلَى المَدِينَةِ، فَأَمَرَ لِي بِخَمْسَ عَشْرَةَ نَاقَةً مِنْ كَرَائِمِ الإِبِلِ. ... المزيد

 11-04-2023
 
 324

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3161
المكتبة الصوتية 4797
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413889402
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :