709ـ خطبة الجمعة: الطاعات ليس لها نهاية إلا الموت

709ـ خطبة الجمعة: الطاعات ليس لها نهاية إلا الموت

709ـ خطبة الجمعة: الطاعات ليس لها نهاية إلا الموت

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: قَدْ خَرَجْنَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ وَوَدَّعْنَاهُ، وَوَدَّعْنَا فِيهِ أَعْمَالَاً نَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ تَكُونَ مَقْبُولَةً؛ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَعْرِفَ أَنَّ صَوْمَنَا كَانَ مَقْبُولَاً أَمْ لَا ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ فَلْنَنْظُرْ إلى أَنْفُسِنَا بَعْدَ رَمَضَانَ، وَإلى هِمَّتِنَا بَعْدَ رَمَضَانَ، هَلْ هِيَ مُتَوَاصِلَةٌ بِالطَّاعَةِ، وَهَلْ رَغْبَتُنَا مُسْتَمِرَّةٌ في العِبَادَةِ؟

إِنَّ مِنْ شُكْرِ اللهِ تعالى عَلَى نِعْمَةِ تَوْفِيقِهِ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ أَنْ يَسْتَمِرَّ المُؤْمِنُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في حَيَاتِهِ كُلِّهَا، لِأَنَّ مِنْ عَلَامَةِ قَبُولِ الحَسَنَةِ الحَسَنَةُ بَعْدَهَا.

وَإِنَّ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَأَمَارَاتِ رَدِّ العَمَلِ العَوْدَةُ إلى المَعَاصِي بَعْدَ الطَّاعَاتِ، يَقُولُ كَعبٌ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ إِذَا أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ لَنْ يَعْصِيَ اللهَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا حِسَابٍ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ إِذَا أَفْطَرَ عَصَى رَبَّهُ فَصِيَامُهُ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ.

يَا عِبَادَ اللهِ: العُمُرُ لَيْسَ هُوَ رَمَضَانُ فَقَطْ، بَلْ هُوَ أَوْسَعُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالثَّوَابُ وَالعِقَابُ في رَمَضَانَ وَفي غَيْرِهِ، وَالسُّؤَالُ عَنْ عُمُرِنَا كُلِّهِ لَا عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَطْ.

يَا عِبَادَ اللهِ: الأَيَّامُ جُزْءٌ مِنَ العُمُرِ، وَمَرْحَلَةٌ مِنْ مَرَاحِلِ الحَيَاةِ، وَهِيَ طَرِيقٌ يُوصِلُ إلى المُسْتَقَرِّ، الأَيَّامُ مَرَاحِلُ في الطَّرِيقِ، نُفْنِيهَا يَوْمَاً بَعْدَ يَوْمٍ، وَمَرْحَلَةً بَعْدَ مَرْحَلَةٍ، وَعِنْدَمَا تَمْضِي تِلْكَ الأَيَّامُ، تَمْضِي بِالأَعْمَالِ، وَتُقْرِّبُ مِنَ الآجَالِ، حَتَّى يَكُونَ الوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ الكَبِيرِ المُتَعَالِ ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا تَهْدِمُوا مَا قَدَّمْتُمْ في شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِنَّ مِنْ عَلَامَاتِ قَبُولِ الحَسَنَةِ إِتْبَاعُهَا بِالحَسَنَةِ، وَمِنْ عَلَامَاتِ رَدِّهَا إِتْبَاعُهَا بِالسَّيِّئَةِ.

لَا تُوَدِّعُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَشْكُرِ اللهَ تعالى الذي وَفَّقَنَا لِإِتْمَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامَاً وَقِيَامَاً، لَقَد مَضَى وَانْقَضَى وَهُوَ شَاهِدٌ للمُحْسِنِينَ بِإِحْسَانِهِمْ، وَشَاهِدٌ عَلَى العَاصِينَ بِعِصْيَانِهِمْ.

فَإِذَا مَضَى وَانْقَضَى وَوَدَّعْنَا هَذَا الشَّهْرَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ نُوَدِّعَ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، لِأَنَّ الاسْتِقَامَةَ عَلَى الطَّاعَاتِ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ إِلَّا المَوْتُ ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.

الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ لَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَلَا بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلَا بِمَرْحَلَةٍ دُونَ مَرْحَلَةٍ مِنَ العُمُرِ، يَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أَبَى قَوْمٌ المُدَاوَمَةَ، وَاللهِ مَا المُؤْمِنُ بالذي يَعْمَلُ شَهْرَاً أَو شَهْرَيْنِ، أَو عَامَاً أَو عَامَيْنِ، وَاللهِ مَا جَعَلَ اللهُ لِعَمَلِ المُؤْمِنِ أَجَلَاً دُونَ المَوْتِ؛ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: الإِلَهُ الذي يُعْبَدُ في رَمَضَانَ وَيُصَامُ لَهُ فِيهِ، هُوَ ذَاتُهُ الإِلَهُ في جَمِيعِ الأَزْمِنَةِ وَالأَمْكِنَةِ، وَلَا يَلِيقُ بِقَوْمٍ أَلَّا يَعْرِفُوا اللهَ إِلَّا في رَمَضَانَ، فَإِذَا انْسَلَخَ شَهْرُ رَمَضَانَ هَجَرُوا المَسَاجِدَ، وَاعْتَزَلُوا المَصَاحِفَ، وَأَعْرَضُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ تعالى، وَأَقْبَلُوا عَلَى مَعَاصِيهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ وَالَى عَلَيْهِمْ الطَّاعَاتِ وَالعِبَادَاتِ مِنَ الفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، فَإِذَا أَنْهَى العَبْدُ صَوْمَ الفَرِيضَةِ في شَهْرِ رَمَضَانَ يَشْرَعُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِصِيَامِ التَّطَوُّعِ، فَبَابُهُ مَفْتُوحٌ، وَمِنْ صِيَامِ التَّطَوُّعِ صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ شوَّالٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ صِيَامُ سَنَةٍ» رواه النسائي وابن خزيمة عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» رواه ابن ماجه عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتَّاً مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

صُومُوا هَذِهِ الأَيَّامَ مُتَفَرِّقَاتٍ أَو مُتَتَابعَاتٍ، وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ فَصَوْمُهُ أَوْلَى، لِأَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مَطْلُوبَةٌ، وَإِنْ صَامَ النَّفْلَ أَوَّلَاً ثُمَّ قَضَى الوَاجِبَ فَلَا حَرَجَ.

وَجُمْهُورُ الفُقَهَاءِ قَالُوا بِأَنَّ صِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ تَكُونُ في شَهْرِ شَوَّالٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتَّاً مِنْ شَوَّالٍ». يَعْنِي: سِتَّاً مِنْ شَهْرِ شَوَّالٍ. لِأَنَّ «مِنْ» هُنَا تَبْعِيضِيَّةٌ.

وَهُنَاكَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ تَعْنِي ابْتِدَاءً مِنْ شَهْرِ شَوَّالٍ، وَتَبْقَى مُسْتَمِرَّةً إلى شَهْرِ شَعْبَانَ القَادِمِ، وَحَمَلُوا كَلِمَةَ: «مِنْ شَوَّالٍ» علَى الابْتِدَاءِ لَا عَلَى التَّبْعِيضِ.

المُهِمُّ يَا عِبَادَ اللهِ الاسْتِمْرَارُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ حَتَّى نَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 6/ شوال /1441هـ، الموافق: 29/ أيار / 2020م

 2020-05-29
 3185
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

25-06-2025 308 مشاهدة
945ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾

لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد

 25-06-2025
 
 308
19-06-2025 726 مشاهدة
944ـ خطبة الجمعة: وقفة تساءل وتأمل

لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد

 19-06-2025
 
 726
12-06-2025 932 مشاهدة
943ـ خطبة الجمعة: هل تشعر بآلام الآخرين؟

لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد

 12-06-2025
 
 932
04-06-2025 383 مشاهدة
942ـ خطبة الجمعة: ماذا نقول لإخوتنا في غزة أيام العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد

 04-06-2025
 
 383
04-06-2025 284 مشاهدة
941ـ خطبة عيد الأضحى 1446هـ: المغزى الحقيقي من العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ ... المزيد

 04-06-2025
 
 284
29-05-2025 905 مشاهدة
940ـ خطبة الجمعة: ما أحوج الأمة إلى الالتزام بهذا الحديث

بِالعَمَلِ الصَّالِحِ تَحْيَا القُلُوبُ، وَتَزْدَادُ نُورًا يُضِيءُ لِصَاحِبِهِ الطَّرِيقَ، لِيَسِيرَ بِهِ فِي النَّاسِ طَالِبًا مَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِتَرْكِ العَمَلِ الصَّالِحِ قَدْ يَصِلُ القَلْبُ إِلَى المَوْتِ، وَيُصْبِحُ ... المزيد

 29-05-2025
 
 905

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3234
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424628942
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :