65ـ شكر الله تعالى على ما أنعم على الوالدين
مقدمة الكلمة:
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا سَمِعَ سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ كَلَامَ النَّمْلَةِ تَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا، قَالَ تعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾.
لَقَدْ تَعَجَّبَ سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حِرْصِ هَذِهِ النَّمْلَةِ عَلَى قَوْمِهَا، وَتَوَجَّهَ إلى اللهِ تعالى الذي عَلَّمَهُ مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَأَفْهَمَهُ وَأَسْمَعَهُ كَلَامَ النَّمْلَةِ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾.
لَمْ يَغْتَرَّ، وَلَمْ يَفْخَرْ، وَلَمْ يُفَاخِرْ بِمَا آتَاهُ اللهُ تعالى، بَلْ عَرَفَ حَقَّ النِّعْمَةِ، وَاتَّجَهَ إلى اللهِ تعالى بِالشُّكْرِ، وَدَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِثَلَاثِ دَعَوَاتٍ:
دُعَاءُ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
الدُّعَاءُ الأَوَّلُ: تَضَرَّعَ إلى اللهِ تعالى أَنْ يُلْهِمَهُ وَيُوَفِّقَهُ وَيُعِينَهُ عَلَى شُكْرِ النِّعَمِ التي أَنْعَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ بِهَا، وَعَلَى وَالِدَيْهِ، فَقَالَ: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾.
نَعَمْ، لَقَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ مِنْ نِعْمَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَتَعْلِيمِهِ مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَالحَيَوَانِ، وَسَعَةِ المُلْكِ، وَالتَّمْكِينِ في الدُّنْيَا، كَمَا أَنْعَمَ عَلَى وَالِدَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ وَالهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ، فَدَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِشُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ التي صُبَّتْ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ.
فَكَمَا أَنَّ الإِنْسَانَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ أَنْ يَشْكُرَ لِوَالِدَيْهِ كَمَا يَشْكُرُ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ مِنْهُ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ تعالى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى وَالِدَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنْ شَكَرَ فَإِنَّ نَفْعَ ذَلِكَ الشُّكْرِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾.
الدُّعَاءُ الثَّانِي:
أَمَّا الدُّعَاءُ الثَّانِي، فَهُوَ أَنْ يُوَفِّقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ للعَمَلِ الصَّالِحِ الخَيِّرِ، فَقَالَ: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ﴾. أَيْ: أَنْ أَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحاً في ذَاتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا العَمَلُ الصَّالِحُ مَرْضِيّاً عِنْدَكَ، خَالِياً مِنْ كُلِّ غَرَضٍ غَيْرِ رِضَاكَ.
لَقَدْ سَأَلَ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَهُ للعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ الإِيمَانَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ هُمَا سَبَبُ سَعَادَةِ العَبْدِ وَأَمَانِهِ وَاطْمِئْنَانِهِ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
وَالعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ صَالِحاً.
الدُّعَاءُ الثَّالِثُ:
أَمَّا الدُّعَاءُ الثَّالِثُ، فَهُوَ أَنْ يُدْخِلَهُ اللهُ تعالى ضِمْنَ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، قَالَ: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾. أَيْ أَنَّ الدُّخُولَ في الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِ اللهِ هُوَ بِرَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، لَا بِعَمَلٍ يُقَدِّمُهُ، فَكُلُّ عَمَلٍ هُوَ مِنْ فَضْلِهِ، وَكُلُّ جَزَاءٍ هُوَ مِنْ رَحْمَتِهِ.
لَقَدْ طَلَبَ سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَجْعَلَهُ اللهُ تعالى في الآخِرَةِ دَاخِلاً في زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَنْ يُثَبِّتَ اسْمَهُ في دِيوَانِهِمْ، وَيَجْعَلَهُ في جُمْلَتِهِمْ، وَيَحْشُرَهُ في زُمْرَتِهِمْ في الجَنَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الغَايَةُ التي يَتَعَلَّقُ بِهَا الطَّلَبُ، وَدُخُولُ الجَنَّةِ بِمَعِيَّةِ الصَّالِحِينَ هِيَ بِمَحْضِ الفَضْلِ مِنَ اللهِ تعالى، وَلَيْسَتْ بِالعَمَلِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ».
قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ».
فَالمَثُوبَةُ وَدُخُولُ الجَنَّةِ بِمَحْضِ الفَضْلِ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. فَالبَاءُ هُنَا سَبَبِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بَدَلِيَّةً.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنُكْثِرْ مِنَ الشُّكْرِ للهِ تعالى عَلَى مَا أَسْبَغَ عَلَيْنَا مِنْ النِّعَمِ، وَعَلَى وَالِدِينَا، لِأَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ الوَالِدَيْنِ عَلَيْنَا.
﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأحد: 29/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 23/ شباط / 2020م
مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، أَنْ يُخَاطِبَهُمَا بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَالكَلَامِ اللَّطِيفِ، وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخَاطِبَهُمَا بِالعِبَارَاتِ الحَادَّةِ، وَالكَلِمَاتِ النَّابِيَةِ، وَالغِلْظَةِ ... المزيد
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ، الإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ لَهُمَا مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهَا أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى ... المزيد
حُقُوقُ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ كَبِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْ هَذِهِ الحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدَيْهِ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ نَاصِحًا أَمِينًا لَهُمَا بِأُسْلُوبٍ حَكِيمٍ، وَخَاصَّةً ... المزيد
هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هِدَايَةِ وَالِدِهِ كُلَّ الحِرْصِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى لَنَا قِصَّتَهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ لِيَكُونَ أُسْوَةً لَنَا في تَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالحِرْصِ ... المزيد
مَّا يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِ أَنْ يُوَقِّرَهُمَا وَيُكْرِمَهُمَا، فَلَا يَصِفَهُمَا بِوَصْفٍ لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَلَا يُنَادِيهِمَا بِأَسْمَائِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِمَهُمَا في مَجْلِسِهِمَا. كَيْفَ لَا يَكُونُ ... المزيد
مِنْ فَوَائِدِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ كَمَالُ الإِيمَانِ، وَحُسْنُ الإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَهُوَ سَبَبٌ في بَرَكَةِ العُمُرِ، ... المزيد