814ـ خطبة الجمعة: فرصة غالية بعد رمضان

814ـ خطبة الجمعة: فرصة غالية بعد رمضان

814ـ خطبة الجمعة: فرصة غالية بعد رمضان

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الإِنْسَانَ المُؤْمِنَ مُطَالَبٌ بِالعِبَادَةِ وَالمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْتِيَهُ اليَقِينُ، وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الحِرْصُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ.

وَمِنْ أَجْلِ تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ شُرِعَتِ العِبَادَاتُ وَالطَّاعَاتُ، وَبِقَدْرِ نَصِيبِ العَبْدِ مِنَ الطَّاعَاتِ تَكُونُ تَزْكِيَتُهُ لِنَفْسِهِ، وَبِقَدْرِ تَفْرِيطِهِ فِيهَا يَكُونُ بُعْدُهُ عَنِ التَّزْكِيَةِ، وَبِذَلِكَ تَحْصُلُ الخَسَارَةُ، قَالَ تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.

لِذَا مَنْ لَزِمَ الطَّاعَاتِ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا تَرَاهُ أَرَقَّ قَلْبًا، وَأَكْثَرَ صَلَاحًا، أَمَّا أَهْلُ المَعَاصِي فَهُمْ أَغْلَظُ قُلُوبًا، وَأَشَدُّ فَسَادًا.

فُرْصَةٌ غَالِيَةٌ بَعْدَ رَمَضَانَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنَ العِبَادَاتِ التي تَجْعَلُ سِيرَةَ العَبْدِ حَمِيدَةً، وَسَرِيرَتَهُ صَافِيَةً، عِبَادَةُ الصَّوْمِ، فَبِالصَّوْمِ تَحْسُنُ سِيرَتُهُ، عِنْدَمَا يَجْعَلُ شِعَارَهُ أَمَامَ المُسِيءِ: إِنِّي صَائِمٌ؛ وَتَصْفُو سَرِيرَتُهُ، لِأَنَّهُ دَخَلَ مَقَامَ الإِحْسَانِ «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ».

لِذَلِكَ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ دَوْرَةً تَدْرِيبِيَّةً لِحُسْنِ السِّيرَةِ وَصَفَاءِ السَّرِيرَةِ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُ أَيَّامَ طَهَارَةِ القُلُوبِ وَنَقَائِهَا، وَتِلْكَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ يَجْنِيهَا الصَّائِمُ مِنْ صَوْمِهِ، لِيَخْرُجَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِقَلْبٍ جَدِيدٍ، وَقَالَبٍ جَدِيدٍ في سُلُوكِهِ وَأَخْلَاقِهِ.

وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بَعْدَ رَمَضَانَ فُرْصَةٌ مِنْ تِلْكَ الفُرَصِ الغَالِيَةِ، بِحَيْثُ يَقِفُ الصَّائِمُ عَلَى أَعْتَابِ طَاعَةٍ أُخْرَى بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَقَدْ أَرْشَدَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ إلى فَضْلِ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ وَحَثَّهُمْ عَلَى صِيَامِهَا بِأُسْلُوبٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لِأَنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَرَمَضَانُ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَالسِّتَّةُ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ، كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ العُلَمَاءِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: صِيَامُ السِّتِّ بَعْدَ رَمَضَانَ دَلِيلٌ عَلَى شُكْرِ الصَّائِمِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تَوْفِيقِهِ لِصِيَامِ رَمَضَانَ، وَزِيَادَةٌ في الخَيْرِ.

وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّ الطَّاعَاتِ، وَرَغْبَةٌ في المُوَاصَلَةِ في طَرِيقِ الصَّالِحَاتِ.

وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ سُنَنِ الرَّوَاتِبِ، كَمَا أَنَّ صِيَامَ أَيَّامٍ مِنْ شَعْبَانَ بِمَنْزِلَةِ سُنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَبِالسُّنَنِ يَكْمُلُ مَا حَصَلَ في الفَرْضِ مِنْ خَلَلٍ وَنَقْصٍ.

وَصِيَامُهَا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ ثَوَابَ الحَسَنَةِ الحَسَنَةُ بَعْدَهَا، فَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِحَسَنَةٍ بَعْدَهَا، كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى قَبُولِ الحَسَنَةِ الأُولَى، كَمَا أَنَّ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِسَيِّئَةٍ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى رَدِّ الحَسَنَةِ وَعَدَمِ قَبُولِهَا.

صِيَامُهَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشُّكْرِ للهِ تعالى عَلَى نِعْمَةِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَالصِّيَامُ بَعْدَهُ يَكُونُ شُكْرًا للهِ تعالى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ أَرَادَ صِيَامَ هَذِهِ الأَيَّامِ السِّتَّةِ مِنْ شَوَّالٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا أَفْطَرَهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوَّلًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمَنْ قَدَّمَ النَّافِلَةَ عَلَى القَضَاءِ لَمْ يُتْبِعْهَا رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا أَتْبَعَهَا بَعْضًا مِنْ رَمَضَانَ، وَالقَضَاءُ فَرْضٌ وَوَاجِبٌ، وَصِيَامُ الأَيَّامِ السِّتَّةِ تَطَوُّعٌ وَنَافِلَةٌ، وَالفَرْضُ أَوْلَى بِالاهْتِمَامِ.

وَيَجُوزُ صِيَامُ الأَيَّامِ السِّتَّةِ مُتَتَالِيَةً، كَمَا يَجُوزُ صِيَامُهَا مُتَفَرِّقَةً.

نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ القَبُولِ، وَنَسْأَلُهُ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا بِحُسْنِ السِّيرَةِ، وَبِصَفَاءِ السَّرِيرَةِ، وَأَنْ تَتَطَابَقَ أَقْوَالُنَا مَعَ أَفْعَالِنَا، وَأَنْ يُكْرِمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِنِعْمَةِ الإِخْلَاصِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 5/شوال /1443هـ، الموافق: 6/ أيار / 2022م

 2022-05-05
 1946
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

21-09-2023 645 مشاهدة
887ـ خطبة الجمعة: اختياره صلى الله عليه وسلم من الأزل

في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ يَتَجَدَّدُ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ حُبُّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي هُوَ أَصْلُ شَرَفِنَا وَمَصْدَرُ فَخْرِنَا وَعِزِّنَا في هَذَا العَالَمِ. نَعَمْ، ... المزيد

 21-09-2023
 
 645
16-09-2023 487 مشاهدة
886ـ خطبة الجمعة: لا تتعجبوا من البلاء وشدته

يَا مَنْ أَكْرَمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِالانْتِمَاءِ لِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَجَعَلَ هُوِيَّتَنَا الإِسْلَامَ وَالإِيمَانَ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، يَا مَنْ أَكْرَمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فَجَعَلَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ ... المزيد

 16-09-2023
 
 487
08-09-2023 515 مشاهدة
885ـ خطبة الجمعة: هل فقدت المرأة هويتها؟

فَقْدُ الهُوِيَّةِ وَضَيَاعُهَا هِيَ مَأْسَاتُنَا في هَذِهِ الآوِنَةِ، لَقَدْ أَضَاعَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ هُوِيَّتَهُمُ التي مَيَّزَهُمُ اللهُ تعالى بِهَا، وَشَرَّفَهُمْ بِهَا، فَقَدُوهَا شَكْلًا وَمَضْمُونًا، لَقَدْ ضَيَّعَ بَعْضُهُمْ شَرَفَ ... المزيد

 08-09-2023
 
 515
31-08-2023 1307 مشاهدة
884ـ خطبة الجمعة: مأساتنا فقد هويتنا

هَلْ خَطَرَ عَلَى بَالِ أَحَدِنَا أَنْ يَتَسَاءَلَ مَعَ نَفْسِهِ: مَنْ أَنَا؟ وَمَا هُوِيَّتِي؟ قَدْ يَسْتَغْرِبُ الجَمِيعُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ، لِأَنَّ الجَوَابَ يَأْتِي مُبَاشَرَةً: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، أَنَا المُهَنْدِسُ، أَنَا الطَّبِيبُ، ... المزيد

 31-08-2023
 
 1307
24-08-2023 1843 مشاهدة
883ـ خطبة الجمعة: تحمل الصعاب سبيل الوصول إلى الجنة

نَحْنُ في أَيَّامِ فِتَنٍ وَمِحَنٍ وَعَقَبَاتٍ كَبِيرَةٍ، وَمَشَقَّاتٍ صَعْبَةٍ، تَعْصِفُ بِالأُمَّةِ عَصْفًا، فَالمُؤْمِنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صُلْبًا في إِيمَانِهِ دَائِمًا وَأَبَدًا، وَيَسْتَحْضِرَ سَاعَةَ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ ... المزيد

 24-08-2023
 
 1843
17-08-2023 1776 مشاهدة
882ـ خطبة الجمعة: الفوز الحقيقي

الخُسْرَانُ كُلُّ الخُسْرَانِ أَنْ تَكُونَ صِلَةُ العَبْدِ بِرَبِّهِ هَزِيلَةً وَمُتَقَلِّبَةً، إِنْ رَأَى خَيْرًا اطْمَأَنَّ، وَإِلَّا أَعْرَضَ وَاعْتَرَضَ، قَالَ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ... المزيد

 17-08-2023
 
 1776

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5600
المقالات 3113
المكتبة الصوتية 4651
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 410681454
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2023 
برمجة وتطوير :