816ـ خطبة الجمعة: سلوا الله الثبات على الاستقامة
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: كُلُّنَا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ الطَّرِيقَ إلى الجَنَّةِ وَاحِدٌ، وَأَمَّا الطَّرِيقُ إلى النَّارِ فَسُبُلُهُ كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فَالطَّرِيقُ إلى الجَنَّةِ وَاحِدٌ وَوَاضِحٌ، وَالطُّرُقُ المُنْحَرِفَةُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
تَسَاءَلْ أَخِي مَعَ نَفْسِكَ، هَلْ أَنْتَ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ؟ هَلْ أَنْتَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ وَكُنْ صَادِقًا مَعَ نَفْسِكَ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَتَرَكَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدَّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟
قَالَ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ».
مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَعْلَمَ عَمَّنْ يَأْخُذُ دِينَهُ، رَوَى ابنُ عِدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا بْنَ عُمَرَ، دِينَكَ دِينَكَ، إنَّمَا هُوَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ، خُذْ عَنِ الذينَ اسْتَقَامُوا وَلَا تَأْخُذْ عَنِ الذينَ مَالُوا».
وَبَعْدَ هَذَا سَلِ اللهَ تعالى بِقَلْبٍ حَاضِرٍ في الصَّلَاةِ وَفي غَيْرِهَا بِقَوْلِكَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾. وَاسْتَعِذْ بِاللهِ تعالى مِنْ أَنْ يَزِيغَ قَلْبُكَ فَتَخَبَّطَ في دَيَاجِيرِ الظَّلَامِ ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾.
سَلُوا اللهَ الثَّبَاتَ عَلَى الاسْتِقَامَةِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: الإِنْسَانُ المُسْتَقِيمُ قَدْ يَتَعَرَّضُ في بَعْضِ الأَحْيَانِ للفِتَنِ، وَلَاسِيَّمَا في عَصْرِنَا هَذَا، حَيْثُ يَنْشَطُ دُعَاةُ البَاطِلِ، وَيَضْعُفُ دُعَاةُ الحَقِّ، وَيَتَكَلَّمُ الرُّوَيْبِضَةُ في شَأْنِ الأُمَّةِ، فَيُصَدَّقُ الكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ الصَّادِقُ، وَقَدْ أَخْبَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَإِذَا بِهَذَا العَبْدِ يُفْتَنُ في دِينِهِ، وَيَتَجَاهَلُ الفِطْرَةَ التي فَطَرَهُ اللهُ تعالى عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. فِطْرَةٌ طُبِعَ عَلَيْهَا الإِنْسَانُ يَوْمَ كَانَ في ظَهْرِ أَبِي البَشَرِ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾. وَيَنْسَى وَصِيَّةَ اللهِ تعالى الوَاضِحَةَ في كِتَابِهِ العَظِيمِ إِذْ يَقُولُ: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾. بَلْ يَنْسَى وَيَتَنَاسَى عِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ إِذْ يَقُولُ: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الانْحِرَافِ عَنِ الاسْتِقَامَةِ جَلِيسَ السُّوءِ، هَذَا الجَلِيسُ الذي شَبَّهَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِنَافِخِ الكِيرِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَاحْذَرُوا يَا عِبَادَ اللهِ جُلَسَاءَ السُّوءِ، فَإِنَّهُمْ يَنْتَشِرُونَ في البِلَادِ انْتِشَارَ النَّارِ في الهَشِيمِ، فَهُمْ شَيَاطِينُ الإِنْسِ، وَهُمْ أَعْوَانُ شَيَاطِينِ الجِنِّ، قَالَ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾.
وَلَعَلَّ أَكْبَرَ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ مُقَارَنَةِ هَذَا الشَّيْطَانِ الإِنْسِيِّ الفَاسِقِ للرَّجُلِ الصَّالِحِ لِيَحْرِفَهُ عَنِ الطَّرِيقِ هُوَ أَنَّ ذَلِكَ الصَّالِحَ عَشَا عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾.
فَمَنْ عَشَتْ بَصِيرَتُهُ وَطُمِسَ عَلَيْهَا قَيَّضَ اللهُ تعالى لَهُ شَيْطَانًا عُقُوبَةً لَهُ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
اللَّهُمَّ اجْعَلِ القُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ أَبْصَارِنَا، وَجِلَاءَ أَحْزَانِنَا، وَوَفِّقْنَا للعَمَلِ بِأَحْكَامِهِ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 19/شوال /1443هـ، الموافق: 20/ أيار / 2022م
ارسل إلى صديق |
مِنْ أَسْبَابِ حَيَاةِ القُلُوبِ وَصِحَّتِهَا الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَلَا تَكُونُ القُلُوبُ صَالِحَةً إِلَّا بِصَلَاحِ العَمَلِ، وَلَا يَكُونُ صَلَاحُ العَمَلِ إِلَّا بِصَلَاحِ النِّيَّةِ. فَمَا مِنْ عَمَلٍ إِلَّا وَلَهُ أَثَرٌ في القَلْبِ ... المزيد
فِرُّوا مِنَ اللهِ تعالى إلى اللهِ تعالى، وَاسْتَتِرُوا بِسِتْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا تُبَارِزُوا الجَبَّارَ بِالمَعَاصِي، وَلَا تُجَاهِرُوا بِهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِنَ الذينَ قَلَّ إِيمَانُهُمْ، وَذَهَبَ الحَيَاءُ ... المزيد
إِنَّ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ كَرِيمٌ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ، لِيَتُوبُوا إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُوا عَنْ زَلَّاتِهِمْ وَهُمْ غَيْرُ مَفْضُوحِيَنَ بَيْنَ النَّاسِ؛ وَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ أَنْ نَتَحَلَّى بِصِفَةِ السَّتْرِ ... المزيد
اعْلَمُوا عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ كُلَّ دَقِيقَةٍ، وَكُلَّ لَحْظَةٍ، وَكُلَّ سَاعَةٍ، سَوْفَ نُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ تَبَارَكَ وتعالى، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه التِّرْمِذِيُّ عَنْ ... المزيد
الاسْتِقَامَةُ عَلَى شَرْعِ اللهِ تعالى، وَالطَّاعَةُ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ هُوَ الأَصْلُ في الإِنْسَانِ، وَالانْحِرَافُ عَنْ جَادَّةِ الاسْتِقَامَةِ أَمْرٌ طَارِئٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ ... المزيد
كُلُّ مَا شَرَعَهُ اللهُ تعالى لِعِبَادِهِ إِنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَتِهِمْ دُنْيَا وَأُخْرَى، فَفيهِ مُرَاعَاةُ حُقُوقِ الأَفْرَادِ، وَحُقُوقِ الجَمَاعَاتِ، وَحُقُوقِ اللهِ تعالى عَلَى خَلْقِهِ، وَحُقُوقِهِمْ عَلَى اللهِ تعالى فَضْلًا مِنْهُ ... المزيد