841ـ خطبة الجمعة: كُفَّ عليك هذا

841ـ خطبة الجمعة: كُفَّ عليك هذا

841ـ خطبة الجمعة: كُفَّ عليك هذا

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ أَخَصِّ سِمَاتِ وَصِفَاتِ المُسْلِمِ سَلَامَةَ المُسْلِمِ مِنْهُ يَدًا وَلِسَانًا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَذَا هُوَ المُسْلِمُ الحَقُّ الذي يَكُفُّ لِسَانَهُ عَنْ إِيذَاءِ المُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ لِيَسْلَمَ عَلَى حَسَنَاتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الضَّيَاعِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ يَأْتِي العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ كَالجِبَالِ، وَلَكِنَّ هَدْمَهَا يَكُونُ بِلِسَانِهِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟».

قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.

فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».

«كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ وَجَّهَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ مِنْ خِلَالِ شَخْصِيَّةِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِذْ قَالَ لَهُ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَالمُسْلِمُ لَا يَزَالُ سَالِمًا مَا سَكَتَ، فَإِذَا تَكَلَّمَ كُتِبَ لَهُ أَو عَلَيْهِ، فَانْظُرْ يَا عَبْدَ اللهِ مَا يَقُولُهُ لِسَانُكَ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ وَأَسْوَءِ المَوَاضِعِ الاسْتِطَالَةَ عَلَى الحُرُمَاتِ، وَتَتَبُّعَ العَوْرَاتِ، إِنَّهَا الحَالِقَةُ، بَلِ الآفَةُ الخَطِيرَةُ، وَالمَزْلَقُ العَظِيمُ، الذي اشْتَدَّ نَكِيرُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

مَوْقِفٌ حَاسِمٌ، وَوَعِيدٌ زَاجِرٌ يَمْلَأُ النَّفْسَ المُؤْمِنَةَ الحَيَّةَ خَوْفًا وَهَيْبَةً وَحَذَرًا، وَيُقَرِّرُ مَبْدَأَ صِيَانَةِ العِرْضِ، كَمَا يُقَرِّرُ مَبْدَأَ الجَزَاءِ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ.

نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ، اللِّسَانُ صَغِيرٌ جِرْمُهُ، كَبِيرٌ جُرْمُهُ، كَمْ وَكَمْ أَنْشَأَ الفِتَنَ، وَمَزَّقَ الأُمَّةَ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، وَكَمْ وَكَمْ طَعَنَ في سَلَفِ الأُمَّةِ لِيُشَكِّكَ الأُمَّةَ في دِينِهَا؟ وَكَمْ وَكَمْ شَوَّهَ صُورَةَ خَيْرِ الرِّجَالِ الذينَ كَانُوا في زَمَنِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذينَ شَهِدَ لَهُمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»؟ رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: اللِّسَانَ اللِّسَانَ، بِاللِّسَانِ تَجْمَعُ وَبِهِ تُفَرِّقُ، بِاللِّسَانِ تُحَبِّبُ وَبِهِ تُبَغِّضُ، بِاللِّسَانِ تُعَمِّرُ وَبِهِ تُدَمِّرُ، بِاللِّسَانِ تَرْفَعُ وَبِهِ تُذِلُّ، بِاللِّسَانِ تُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَبِهِ تُكْتَبُ كَذَّابًا.

وَلْيَسْمَعْ مَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِهِ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ؟

قَالَ: «التَّقْوَى، وَحُسْنُ الْخُلُقِ».

وَسُئِلَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّارَ؟

قَالَ: «الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ، وَالْفَرْجُ».

وَهَلْ تَعْلَمُونَ يَا عِبَادَ اللهِ هَذَا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ الذي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَفَعَهُ قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا».

يَا عِبَادَ اللهِ: لِيَسْلَمِ المُسْلِمُونَ مِنْ أَلْسِنَتِنَا وَمِنْ أَيْدِينَا حَتَّى نَسْلَمَ وَنُسْلِمَ، وَخَاصَّةً في حَقِّ سَلَفِ الأُمَّةِ مِنْ صَحْبٍ وَآلِ بَيْتٍ وَأَهْلِ تَقْوًى وَصَلَاحٍ، وَإِلَّا فَلَا يَلُومَنَّ المَرْءُ إِلَّا نَفْسَهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 9/ربيع الآخر /1444هـ، الموافق: 4/ تشرين الثاني / 2022م

 2022-11-04
 5562
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

24-04-2025 119 مشاهدة
935ـ خطبة الجمعة: سلامة الصدر نعمة ربانية

مِنْ أَهَمِّ مَا يُمَيِّزُ الأُمَّةَ المُحَمَّدِيَّةَ، أَنَّهَا أُمَّةٌ مُتَوَادَّةٌ مُتَرَاحِمَةٌ مُتَكَاتِفَةٌ مُتَحَابَّةٌ، تَبْنِي أَفْرَادَهَا، وَتُقِيمُ مُجْتَمَعَاتِهَا عَلَى أُسُسِ التَّعَاوُنِ المُشْتَرَكِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالاحْتِرَامِ ... المزيد

 24-04-2025
 
 119
17-04-2025 289 مشاهدة
934ـ خطبة الجمعة: أسباب النصر (2)

لَقَدْ وَعَدَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى لَا يُخْلَفُ، بَلْ أَوْضَحَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ أَنَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ ... المزيد

 17-04-2025
 
 289
10-04-2025 628 مشاهدة
933ـ خطبة الجمعة: أسباب النصر (1)

مِنَ المَعْلُومِ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ مُسْلِمٍ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ، وَأَنْ يُمَكِّنَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ... المزيد

 10-04-2025
 
 628
28-11-2024 4084 مشاهدة
932ـ خطبة الجمعة: مهمتنا أيام الكرب والغمة

أَحْوَالٌ عَصِيبَةٌ، وَظُرُوفٌ رَهِيبَةٌ تُحِيطُ بِأَهْلِ بِلَادِ الشَّامِ في هَذِهِ الأَيَّامِ، نَرَى صُوَرًا مُحْزِنَةً، أُمَّةٌ في مَجْمُوعِهَا كَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، أُمَّةٌ قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ... المزيد

 28-11-2024
 
 4084
22-11-2024 1522 مشاهدة
931ـ خطبة الجمعة: الدافع إلى محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

الإنْسَانُ السَّوِيُّ مَجْبُولٌ وَمَفْطُورٌ مِنْ أَصْلِ خَلْقِهِ عَلَى الحُبِّ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إِنْسَانٍ سَوِيٍّ عَاقِلٍ بِدُونِ حُبٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الحُبُّ مُدَنَّسًا أَمْ مُقَدَّسًا، فَالمُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ... المزيد

 22-11-2024
 
 1522
14-11-2024 1778 مشاهدة
930ـ خطبة الجمعة: غرس الله تعالى محبته صلى الله عليه وسلم في الجمادات وغيرها

لَقَدْ عَظَّمَ اللهُ نَبِيَّنَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَكْرَمَهُ، وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ، وَأَعْطَاهُ مِنَ المِيزَاتِ وَالخَصَائِصِ مَا لَمْ يُعْطِهِ لِأَحَدٍ مِنَ البَشَرِ ... المزيد

 14-11-2024
 
 1778

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5682
المقالات 3210
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 422766096
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :