851ـ خطبة الجمعة: ما زال جبريل يوصيني بالجار
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ اللهَ تعالى الذي خَاطَبَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ يُوصِيهِ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالجَارِ، وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ المَلَائِكَةَ الكِرَامَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، يَعْنِي: هَذِهِ الوَصِيَّةُ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالجَارِ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ».
نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ: مَعَ مَكَارِمِ أَخْلَاقٍ، وَحُسْنِ مُعَامَلَةٍ، وَمَعَ كَمَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُوصِيهِ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالجَارِ.
«مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ»:
يَا عِبَادَ اللهِ: رَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَهْلِي أُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا أَنَا بِهِ قَائِمٌ، وَإِذَا رَجُلٌ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُمَا حَاجَةً، فَجَلَسْتُ، فَوَاللهِ لَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ قَامَ بِكَ هَذَا الرَّجُلُ، حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَكَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ.
قَالَ: «أَتَدْرِي مَنْ هَذَا؟».
قُلْتُ: لَا.
قَالَ: «ذَاكَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ سَلَّمْتَ عَلَيْهِ لَرَدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ».
هَذَا القِيَامُ الطَّوِيلُ هَلْ هُوَ بِكَلِمَةِ: أُوصِيكَ بِالجَارِ؟ أَمْ أَنَّهُ يُعَدِّدُ عَلَيْهِ جَوَانِبَ الوَصِيَّةِ بِالجَارِ؟ اللهُ تعالى أَعْلَمُ؛ الذي يُهِمُّنَا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ طُولُ القِيَامِ مَعَ سَيِّدِنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَدَى مَكَانَةِ الوَصِيَّةِ بِالجَارِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «مَا زَالَ» تُفِيدُ التَّكْرَارَ.
دَرْءُ المَفَاسِدِ عَنِ الجَارِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ جَارٌ، فَهَلْ يَا تُرَى نُحْسِنُ إلى جِوَارِنَا أَمْ نُسِيءُ؟ لِيَسْمَعْ جَمِيعُنَا بَعْضَ أَحَادِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ التي تُوصِي بِالجَارِ.
رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ».
قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ».
وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ». وَفي رِوَايَةٍ: «فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ». وَفي رِوَايَةٍ: «فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ».
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ نَفَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَمَالَ الإِيمَانِ عَنِ الذي لَا يُحْسِنُ إلى جَارِهِ، وَعَنِ الذي لَا يُكْرِمُ جَارَهُ، فَكَيْفَ بِالذي يُسِيءُ إلى جَارِهِ؟ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى لَا يَكُونُ إِيمَانُهُ كَامِلًا.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: الإِحْسَانُ إلى الجَارِ يَعْنِي جَلْبَ المَنْفَعَةِ لَهُ، وَعَدَمَ إِيذَائِهِ، وَدَرْءَ المَضَرَّةِ عَنْهُ، وَإِكْرَامَهُ بِحُسْنِ التَّعَامُلِ مَعَهُ، وَالتَّحَلِّيَ بِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ في العَلَاقَةَ مَعَهُ؛ وَمِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ أَنْ تُحْسِنَ إلى جَارِكَ بِالقَوْلِ الحَسَنِ، وَالفِعْلِ الحَسَنِ؛ وَإِنْ صَدَرَتْ مِنْهُ إِسَاءَةٌ، أَنْ تَرُدَّهَا بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَأَنْتَ تَتَمَثَّلُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للإِحْسَانِ إلى جِوَارِنَا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 27/ جمادى الآخرة /1444هـ، الموافق: 20/ كانون الثاني / 2023م
لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد
لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد
لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ ... المزيد
بِالعَمَلِ الصَّالِحِ تَحْيَا القُلُوبُ، وَتَزْدَادُ نُورًا يُضِيءُ لِصَاحِبِهِ الطَّرِيقَ، لِيَسِيرَ بِهِ فِي النَّاسِ طَالِبًا مَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِتَرْكِ العَمَلِ الصَّالِحِ قَدْ يَصِلُ القَلْبُ إِلَى المَوْتِ، وَيُصْبِحُ ... المزيد