908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ :هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَيَا عِبَادَ اللهِ: هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى، وَمِنَ الظُّلَمَاتِ إلى النُّورِ، كَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِنِعْمَةِ القُرْآنِ، قَالَ تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾.
وَمُذَكِّرًا لَنَا بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.
شَهْرُ رَمَضَانَ كَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالقُرْآنِ العَظِيمِ الذي هُوَ مَنْهَجُ حَيَاتِنَا، الذي جَاءَ مِنَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.
شَهْرُ رَمَضَانَ كَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالقُرْآنِ العَظِيمِ الذي هَدَانَا لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ في جَمِيعِ شُؤُونِنَا، وَنَفَى عَنَّا بِهِ الخَوْفَ وَالحُزْنَ، وَحَيَاةَ الشَّقَاءِ وَالضَّنْكِ، وَجَعَلَنَا نَعِيشُ حَيَاةً طَيِّبَةً كَرِيمَةً مُبَارَكَةً بِالقُرْآنِ.
لِذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يُتَّخَذَ اليَوْمُ الذي يَلِي شَهْرَ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، يَوْمَ عِيدَ وَخَيْرٍ وَبَرَكَةٍ، وَفِيهِ يُعَبِّرُ المُسْلِمُونَ عَنْ شُكْرِهِمْ للهِ تعالى عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْزَالِ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَيَسْأَلُونَ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَهُمْ لِلْعَمَلِ بِهَذَا القُرْآنِ العَظِيمِ.
يَوْمُ الجَائِزَةِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: كَيْفَ لَا يُتَّخَذُ اليَوْمُ الأَوَّلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ يَوْمَ عِيدٍ وَفِيهِ تَزُفُّ المَلَائِكَةُ البُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ؟
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الطُّرُقِ، فَنَادَوْا: اغْدُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يَمُنُّ بِالْخَيْرِ، ثُمَّ يُثِيبُ عَلَيْهِ الْجَزِيلَ، لَقَدْ أُمِرْتُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَقُمْتُمْ، وَأُمِرْتُمْ بِصِيَامِ النَّهَارِ فَصُمْتُمْ، وَأَطَعْتُمْ رَبَّكُمْ، فَاقْبِضُوا جَوَائِزَكُمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، نَادَى مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا رَاشِدِينَ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَهُوَ يَوْمُ الْجَائِزَةِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ الْجَائِزَةِ».
يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ أَدَيْتُمْ فَرِيضَةَ الصِّيَامِ، هَذَا هُوَ يَوْمُ الجَائِزَةِ، حَيْثُ الثَّوَابُ العَظِيمُ الجَزِيلُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ وَالعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، هَذَا الثَّوَابُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ البَشَرِ أَنْ يَتَصَوَّرَ مِقْدَارَهُ.
نَسْأَلُ اللهَ تعالى رَبَّ العَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِهَذِهِ الجَائِزَةِ.
هَنِيئًا لَكَ يَوْمُ الجَائِزَةِ إِذَا كُنْتَ مِنَ المَقْبُولِينَ:
يَا عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ عَلَامَاتِ القَبُولِ عِنْدَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾:
أَوَّلًا: أَنْ تَكُونَ بَعْدَ رَمَضَانَ مِنَ المُسَارِعِينَ إلى الطَّاعَاتِ وَالمُحْيِينَ لَهَا، وَتَكُونَ مِنَ التَّارِكِينَ لِلْمَعَاصِي أنَفَةً مِنْهَا، وَتَدُومَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ.
ثَانِيًا: أَنْ تَرَى أَبْوَابَ الخَيْرَاتِ وَالقُرُبَاتِ مُفَتَّحَةً أَمَامَكَ بَعْدَ رَمَضَانَ كَمَا كَانَتْ مُفَتَّحَةً لَكَ في رَمَضَانَ، وَأَنْتُ تُسَارِعُ إِلَيْهَا.
ثَالِثًا: أَنْ تَسْتَشْعِرَ أَنَّ لَكَ قَلْبًا جَدِيدًا يَنْبِضُ بِحُبِّ اللهِ تعالى، وَحُبِّ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِوَاهُمَا.
رَابِعًا: أَنْ تَكُونَ حَارِسًا أَمِينًا عَلَى الطَّاعَاتِ التي وَفَّقَكَ اللهُ تعالى إِلَيْهَا، فَلَا تَطْلُبُ بِهَا رِضَا النَّاسِ، أَو تَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ شَيْئًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا.
وَأَنْ تَكُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنَ العُجْبِ وَالغُرُورِ، وَطَلَبِ المَنْزِلَةِ عِنْدَ الخَلْقِ، لِأَنَّ مِنَ أَقْبَحِ القَبِيحِ أَنْ تُوَلِّدَ عِنْدَكَ الطَّاعَةُ عِزًّا وَاسْتِكْبَارًا، بَلْ كَيْفَ تَسْتَكْبِرُ وَتَسْتَعْلِي عَلَى الآخَرِينَ وَأَنْتَ مُقِرٌّ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَمُقِرٌّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾؟
خَامِسًا: أَنْ تُوَاصِلَ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِصِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ».
سَادِسًا: أَنْ تُعْطِيَ الصُّورَةَ الحَسَنَةَ عَنْ صِيَامِكَ وَقِيَامِكَ مِنْ خِلَالِ إِتْقَانِ عَمَلِكَ، إِنْ كُنْتَ طَالِبًا فَكُنْ مِنَ الأَوَائِلِ، وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ مِنَ المُقَصِّرِينَ؛ وَإِنْ كُنْتَ مُوَظَّفًا فَأَعْطِ الوَظِيفَةَ حَقَّهَا؛ وَإِنْ كُنْتَ طَبِيبًا مُهْنْدِسًا تَاجِرًا مَسْؤُولًا فَأَعْطِ الصُّورَةَ الحَسَنَةَ عَنْ إِسْلَامِكَ مِنْ خِلَالِ عَمِلَكَ، وَإِلَّا نَفَّرْتَ النَّاسَ مِنْ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ، وَتَرْكَ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ لَا يَنْقَطِعُ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُنَا في أَجْسَادِنَا، فَالتَّكَالِيفُ لَا تَسْقُطُ عَنَّا مَا دَامَتِ الأَنْفَاسُ تَتَرَدَّدُ فِينَا.
الشُّهُورُ وَالأَيَّامُ وَاللَّيَالِي كُلُّهَا مَقَادِيرُ لِلْآجَالِ، وَمَوَاقِيتُ لِلْأَعْمَالِ، تَنْقَضِي سَرِيعًا، وَتَمْضِي جَمِيعًا، وَالذي أَوْجَدَهَا وَاخْتَصَّهَا بِمَا اخْتَصَّهَا مِنَ الخَيْرَاتِ بَاقٍ لَا يَزُولُ، وَدَائِمٌ لَا يَحُولُ، هُوَ في جَمِيعِ الأَوْقَاتِ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ، وَلِأَعْمَالِ عِبَادِهِ رَقِيبٌ مُشَاهِدٌ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا للاسْتِقَامَةِ حَتَّى يَأْتِيَنَا اليَقِينُ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الأربعاء: 1/ شوال /1445هـ، الموافق: 10/ نيسان / 2024م
ارسل إلى صديق |
إِنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الأَدَبِ الأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى، بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ أَدَبٍ، وَالأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى هُوَ حُسْنُ الانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مَعَ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالحَيَاءِ مِنْهُ تَبَارَكَ وتعالى. ... المزيد
لَقَدْ جَاءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةٍ مِنْ عِنْدِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى لِخَلْقِهِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَتَأَدَّبُ مَعَ حَبِيبِهِ ... المزيد
مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ وَإِنْصَافٍ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُو جَمِيعَ العُقَلَاءِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ إلى الأَدَبِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ... المزيد
العَارُ كُلُّ العَارِ أَنْ لَا يَعْرِفَ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ عَرَفَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ لَمْ يَرْتَبْ وَلَمْ يَشُكَّ في صِدْقِهِ وَفي صِدْقِ مَا جَاءَ ... المزيد
لَقَدْ وَهَبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ البَشَرِيَّةَ حَيَاةَ سَعَادَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ، وَرُوحًا نَاضِرَةً، وَذَلِكَ بِظُهُورِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا ... المزيد
العُلَمَاءُ العَامِلُونَ الرَّبَّانِيُّونَ نُجُومٌ جَعَلَهُمُ اللهُ تعالى هِدَايَةً لِمَنْ أَرَادَ سَلَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، العُلَمَاءُ العَامِلُونَ هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ المَرْضِيُّونَ، أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ مَشْهُودٍ ... المزيد