876ـ خطبة الجمعة: حكم ومقاصد الحج
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ جَعَلَ اللهُ تعالى مَوَاسِمَ للأُمَّةِ، وَنَفَحَاتِ خَيْرٍ وَعَطَاءٍ؛ وَمِنْ أَعْظَمِهَا مَوْسِمُ الحَجِّ المُبَارَكِ، حَيْثُ يُعْلِنُ حُجَّاجُ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ اسْتِجَابَتَهُمْ لِأَمْرِ رَبِّهِمُ عَزَّ وَجَلَّ القَائِلِ: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ فَيَقُولُونَ بِلِسَانِ الحَالِ وَالمَقَالِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ.
وَمَا أَجْمَلَ الحَاجَّ وَغَيْرَ الحَاجِّ عِنْدَمَا يَجْعَلُ شِعَارَهُ دَائِمًا وَأَبَدًا لِأَوَامِرِ اللهِ تعالى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَيَصْدُقُ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَصْقُلُ قَلْبَهُ بِطَاعَتِهِ، وَيُسَارِعُ إلى مَغْفِرَةِ رَبِّهِ تَبَارَكَ وتعالى.
يَا عِبَادَ اللهِ: الحَجُّ المُبَارَكُ لَيْسَ تَغْيِيرًا مُؤَقَّتًا في حَيَاةِ الحَاجِّ، إِنَّمَا هُوَ تَغْيِيرٌ شَامِلٌ لِكُلِّ جَوَانِبِ الحَيَاةِ، فَيَخْرُجُ الحَاجُّ بِحَجِّهِ مِنَ الحَيَاةِ اللَّاهِيَةِ العَابِثَةِ، مِنْ حَيَاةِ اللَّهْوِ وَالهَزْلِ، إلى حَيَاةِ الجِدَّ وَالمُثَابَرَةِ، يَخْرُجُ مِنْ حَيَاةِ التَّسْوِيلِ وَالتَّسْوِيفِ إلى حَيَاةِ العَزْمِ الصَّادِقِ وَالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ.
حِكَمُ وَمَقَاصِدِ الحَجِّ:
يَا عِبَادَ اللهِ: فَرِيضَةُ الحَجِّ مِنْ أَعْظَمِ فَرَائِضِ الإِسْلَامِ، فَهِيَ لَيْسَتْ رِحْلَةً سِيَاحِيَّةً، وَلَا نُزْهَةً مِنَ النُّزَهِ، إِنَّمَا هِيَ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفُرْصَةٌ إِيمَانِيَّةٌ كَبِيرَةٌ، يَحُفُّهَا الشَّرْعُ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهَا، وَتَضْبِطُهَا آدَابٌ سَامِيَةٌ، وَأَخْلَاقٌ عَالِيَةٌ، لِيَنَالَ الحَاجُّ البِشَارَةَ العَظِيمَةَ التي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الذي مَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلِكَيْ يَنَالَ العَبْدُ هَذِهِ البِشَارَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى الأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ التي أَشَارَ اللهُ تعالى إِلَيْهَا عِنْدَمَا تَحَدَّثَ عَنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾.
وَلِكَيْ يَنَالَ العَبْدُ هَذِهِ البِشَارَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَحَقَّقَ بِصِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾.
الحَجُّ يُرِيدُ مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ تعالى الحَرَامِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُمُ الهِمَمُ العَالِيَةُ في كَثْرَةِ النَّوَافِلِ ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.
وَلِكَيْ يَنَالَ العَبْدُ هَذِهِ البِشَارَةَ العَظِيمَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ سَامٍ عَالٍ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: الحَجُّ المَبْرُورُ يَزِيدُ في إِيمَانِ الحَاجِّ، حَيْثُ يَتَذَكَّرُ الحَاجُّ وَهُوَ يَتَأَمَّلُ تِلْكَ الوُفُودَ الزَّائِرَةَ المُحْرِمَةَ ذَلِكَ الرَّكْبَ الكَرِيْمُ الذي كَانَ يَقْطَعُ الصَّحْرَاءَ، مَوْكِبٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ تَقَدَّمَتْ بِهِ السِّنُّ، مَعَ زَوْجَتِهِ وَهِيَ تَحْمِلُ طِفْلَهَا الرَّضِيعَ وَمَا مَعَهُمْ إِلَّا شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنَ المَاءِ، لِيَضَعَ هَذَا الشَّيْخُ الكَبِيرُ زَوْجَتَهُ وَوَلَدَهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ المُحَرَّمِ؛ فَتَقُولَ لَهُ زَوْجَتُهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟
فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟
قَالَ نَعَمْ.
قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا. رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا
وَفي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا قَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟
قَالَ: إِلَى اللهِ.
قَالَتْ: رَضِيتُ بِاللهِ.
وَيَنْطَلِقُ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الثَّنِيَةَ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾.
وَاسْتَجَابَ اللهُ تعالى دَعْوَةَ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ وَهَا نَحْنُ إلى اليَوْمِ نَرَى آثَارَ تِلْكَ الدَّعْوَةِ المُسْتَجَابَةِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ هُوَ شَرَفٌ عَظِيمٌ للحَاجِّ، أَنْ يَصِلَ إلى الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ، وَهُوَ يَتَذَكَّرُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؟
مَا هَذَا الشَّرَفُ العَظِيمُ يَا أُمَّةَ الإِسْلَامِ؟
يَا عِبَادَ اللهِ: الحَجُّ تَغْيِيرٌ شَامِلٌ للحَاجِّ، حَيْثُ يَقُولُ لِأَوَامِرِ اللهِ تعالى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ؛ وَلَيْسَ تَغْيِيرًا مُؤَقَّتًا.
أَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا أَنْ تُكْرِمَنَا بِحُسْنِ الاسْتِجَابَةِ لِأَوَامِرِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 18/ ذو الحجة /1444هـ، الموافق: 7/ تموز / 2023م
مِنْ أَهَمِّ مَا يُمَيِّزُ الأُمَّةَ المُحَمَّدِيَّةَ، أَنَّهَا أُمَّةٌ مُتَوَادَّةٌ مُتَرَاحِمَةٌ مُتَكَاتِفَةٌ مُتَحَابَّةٌ، تَبْنِي أَفْرَادَهَا، وَتُقِيمُ مُجْتَمَعَاتِهَا عَلَى أُسُسِ التَّعَاوُنِ المُشْتَرَكِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالاحْتِرَامِ ... المزيد
لَقَدْ وَعَدَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى لَا يُخْلَفُ، بَلْ أَوْضَحَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ أَنَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ ... المزيد
مِنَ المَعْلُومِ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ مُسْلِمٍ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ، وَأَنْ يُمَكِّنَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ... المزيد
أَحْوَالٌ عَصِيبَةٌ، وَظُرُوفٌ رَهِيبَةٌ تُحِيطُ بِأَهْلِ بِلَادِ الشَّامِ في هَذِهِ الأَيَّامِ، نَرَى صُوَرًا مُحْزِنَةً، أُمَّةٌ في مَجْمُوعِهَا كَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، أُمَّةٌ قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ... المزيد
الإنْسَانُ السَّوِيُّ مَجْبُولٌ وَمَفْطُورٌ مِنْ أَصْلِ خَلْقِهِ عَلَى الحُبِّ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إِنْسَانٍ سَوِيٍّ عَاقِلٍ بِدُونِ حُبٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الحُبُّ مُدَنَّسًا أَمْ مُقَدَّسًا، فَالمُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ... المزيد
لَقَدْ عَظَّمَ اللهُ نَبِيَّنَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَكْرَمَهُ، وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ، وَأَعْطَاهُ مِنَ المِيزَاتِ وَالخَصَائِصِ مَا لَمْ يُعْطِهِ لِأَحَدٍ مِنَ البَشَرِ ... المزيد