نحو أسرة مسلمة
150ـ الحياة الطاهرة تحتاج إلى غيرة الرجال
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ أَيَّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ لَا تَعْلُو ـ بِإِذْنِ اللهِ تعالى ـ إِلَّا بِضَمَانِ الأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ في سِيَرِ الرِّجَالِ، وَمَا جَاءَتْ رِسَالَةُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا لِإِتْمَامِ مَكَارِمِ وَصَالِحِ الأَخْلَاقِ، بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ تعالى وَعِبَادَتِهِ، روى الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا يَكُونُ المُجْتَمَعُ صَارِمَاً في نِظَامِ أَخْلَاقِهِ، وَضَوَابِطِ سُلُوكِهِ، غَيُورَاً على كَرَامَةِ أَفْرَادِهِ، مُؤْثِرَاً رِضَا اللهِ تعالى على نَوَازِعِ شَهَوَاتِهِ، حِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ مَسَارُهُ في طَرِيقِ الحَقِّ وَالرِّفْعَةِ وَالصَّلَاحِ وَالإِصْلَاحِ، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ، فَالمُجْتَمَعَاتُ لَا تَنْهَارُ وَلَا تَتَمَزَّقُ إِلَّا عِنْدَ ضَيَاعِ الأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ، وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ المُحَرَّمَةِ، فَبِالأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ تَقْوَى الأُمَّةُ، وَيَضعُفُ أَمَامَهَا العَدُوُّ، وَيَنْهَارُ بِالأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ.
الغَيْرَةُ عَلَى الأَعرَاضِ، وَحِمَايَةُ حِمَى الحُرُمَاتِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ التي تَقْوَى بِهَا الأُمَّةُ، وَيَنْهَارُ أَمَامَهَا عَدُوُّهَا، الغَيْرَةُ على الأَعْرَاضِ، وَحِمَايَةُ حِمَى الحُرُمَاتِ، فَكُلَّمَا عَظُمَتِ الغَيْرَةُ في نُفُوسِ الرِّجَالِ كُلَّمَا قَوِيَتِ الأُمَّةُ، وَانْهَارَ عَدُوُّهَا، وَكُلَّمَا ضَعُفَتِ الغَيْرَةُ ضَعُفَتِ الأُمَّةُ، وَتَمَكَّنَ عَدُوُّهَا مِنْهَا.
وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهَا عِنْدَ العُقَلَاءِ، لِذَا نَرَى أَعْدَاءَ هَذِهِ الأُمَّةِ حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ عل نَزْعِ الغَيْرَةِ مِنْ نُفُوسِ الرِّجَالِ، لِتَهُونَ عِنْدَهُمُ الأَعْرَاضُ، ثمَّ لَا يُبَالُونَ بِحِمَى الحُرُمَاتِ وَلَو دِيسَتْ تَحْتَ الأَقْدَامِ بَعْدَ ذَلِكَ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلُّ رَجُلٍ عَاقِلٍ شَهْمٍ فَاضِلٍ لَا يَرْضَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ عِرْضُهُ مُمَجَّدَاً وَمُقَدَّسَاً، وَيَسْعَى لِيَبْقَى عِرْضُهُ حَرَمَاً مَصُونَاً، لَا يَرْتَعُ فِيهِ اللَّامِزُونَ أَصْحَابُ الشَّهَوَاتِ، وَلَا يَجُوسُ حِمَاهُ العَابِثُونَ الفَاسِدُونَ المُفْسِدُونَ.
إِنَّ كَرِيمَ الأَصْلِ وَكَرِيمَ العِرْضِ يَبْذُلُ الغَالِيَ وَالنَّفِيسَ مِنْ أَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْ شَرَفِهِ، وَإِنَّ صَاحِبَ المُرُوءَةِ الشَّهْمَ يَصُونُ عِرْضَهُ بِالمَالِ، فَلَا بُورِكَ بِمَالٍ لَا يَصُونُ عِرْضَاً، وَلَا بُورِكَ بِمَنْصِبٍ لَا يَصُونُ عِرْضَاً، وَلَا بُورِكَ بِقُوَّةٍ لَا تَصُونُ عِرْضَاً، وَلَا بُورِكَ بِثَقَافَةٍ لَا تَصُونُ عِرْضَاً، وَلَا بُورِكَ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ لَا يَصُونُ عِرْضَاً.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: صَاحِبُ الغَيْرَةِ يُخَاطِرُ بِحَيَاتِهِ، وَيَبْذُلُ مُهْجَتَهُ، وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ المَخَاطِرِ، بَلْ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِسِهَامِ المَوْتِ عِنْدَمَا يَقْتَرِبُ أَحَدٌ مِنْ حِمَى الحُرُمَاتِ وَالأَعْرَاضِ، وَقَدْ بَلَغَ دِينُنَا الحَنِيفُ في ذَلِكَ الذُّرْوَةَ وَالغَايَةَ، حِينَ قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رواه الترمذي عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَعِنْدَ أَصْحَابِ الغَيْرَةِ تَهُونُ أَنْ تُصَابَ الأَجْسَامُ، وَأَنْ تَسِيلَ الدِّمَاءُ، لِتَسْلَمَ الأَعْرَاضُ مِنْ دَنَسِ المُفْسِدِينَ.
الحَيَاةُ الطَّاهِرَةُ تَحْتَاجُ إلى غَيْرَةِ الرِّجَالِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ حُرِمَ الغَيْرَةَ حُرِمَ طُهْرَ الحَيَاةِ، وَمَنْ حُرِمَ طُهْرَ الحَيَاةِ فَهُوَ أَحَطُّ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ، وَلَا يُمْتَدَحُ بِالغَيْرَةِ إِلَّا كِرَامُ الرِّجَالُ، وَكَرَائِمُ النِّسَاءِ.
إِنَّ الحَيَاةَ الطَّاهِرَةَ تَحْتَاجُ إلى رِجَالٍ أَخْيَارٍ، وَعَزَائِمِ الرِّجَالِ، وَتَحْتَاجُ إلى أَصْحَابِ النَّخْوَةِ وَأَصْحَابِ الغَيْرَةِ، وَأَمَّا عِيشَةُ الدَّعَارَةِ وَالسَّفَالَةِ فَطَرِيقُهَا سَهْلُ الانْحِدَارِ وَالانْهِيَارِ، وَبِالمَكَارِهِ حُفَّتِ الجَنَّةُ، وَبِالشَّهَوَاتِ حُفَّتِ النَّارُ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتْ حَيَاةُ الصَّدْرِ الأَوَّلِ مِنَ الإِسْلَامِ حَيَاةَ طُهْرٍ وَعَفَافٍ، لِأَنَّ أَصْحَابَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ غَيْرَةً على أَعْرَاضِهِمْ.
روى الإمام البخاري قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلَاً مَعَ امْرَأَتِي لَـضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ(أي غَيْرَ ضَارِبٍ بِعَرْضِهِ بَل بِحَدِّهِ لِلقَتْلِ وَالإِهْلَاكِ).
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي». عِنْدَمَا كَانُوا غَيُورِينَ على أَعْرَاضِهِمْ هَابَتْهُمُ الفُرْسُ وَالرُّومُ، وَسَادُوا الدُّنْيَا.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا الذي حَلَّ في مُجْتَمَعِنَا اليَوْمَ؟ هَلْ غَادَرَتِ الغَيْرَةُ مِنَ النُّفُوسِ؟ وَهَلْ غَاضَ مَاؤُهَا، وَانْطَفَأَ نُورُهَا؟ لِمَاذَا انْتَشَرَ الخُبْثُ وَالرَّذِيلَةُ في المُجْتَمَعِ؟
هَلْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ تُعْلَنَ الفَاحِشَةُ بِكُلِّ وَقَاحَةٍ على شَاشَاتِ التِّلْفَازِ وَأَجْهِزَةِ الإِعْلَامِ بِكُلِّ صُوَرِهَا وَأَشْكَالِهَا؟ وَهَلْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ تَرَى أَفْرَادَ الأُسْرَةِ الوَاحِدَةِ مِنْ زَوْجٍ وَزَوْجَةٍ وَوَلَدٍ أَمَامَ أَجْهِزَةِ الإِعْلَامِ، وَالفاحِشَةُ مُعْلَنَةٌ بِكُلِّ وَقَاحَةٍ؟
أَيْنَ ذَهَبَ الحَيَاءُ؟ وَأَيْنَ ضَاعَتِ المُرُوءَةُ؟ وَأَيْنَ ضَاعَتِ الغَيْرَةُ؟ لِنَعْلَمْ جَمِيعَاً قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ـ وَعَدَّ مِنْهُمْ: ـ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
اللَّهُمَّ اسْتُرْ أَعْرَاضَنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأحد: 27/ صفر الخير /1438هـ، الموافق: 27/ تشرين الثاني / 2016م
اضافة تعليق |
لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِنَا الأُسَرِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ تَعَامُلَاً صَحِيحَاً، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ مَعَ التَّدَبُّرِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ... المزيد
كُلَّمَا تَذَكَّرْنَا يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَنَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ، ... المزيد
صَلَاحُ أُسَرِنَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الغَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ مِمَّنْ دَخَلَ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَعْلَمُ لِمَاذَا ... المزيد
القُرْآنُ العَظِيمُ الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَاصْطَفَانَا لِوِرَاثَتِهِ هُوَ مَصْدَرُ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ البُيُوتِ، وَكَثْرَةِ الخِلَافَاتِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ، التي تُنَكِّسُ الرُّؤُوسَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَالتي تُسْلِمُ إلى مُقَاسَاةِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا قَبْلَ ... المزيد
سِرُّ سَعَادَتِنَا في حَيَاتِنَا الزَّوْجِيَّةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَحَوُّلِنَا مِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ هِدَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَمَاسُكِ أُسَرِنَا ... المزيد