633ـ خطبة الجمعة: السِّرُّ في تَحوُّل الأمَّة من متبوعة إلى تابعة

633ـ خطبة الجمعة: السِّرُّ في تَحوُّل الأمَّة من متبوعة إلى تابعة

 

633ـ خطبة الجمعة: السِّرُّ في تَحوُّل الأمَّة من متبوعة إلى تابعة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: حَالَةُ الأُمَّةِ اليَوْمَ حَالَةٌ مُزْرِيَةٌ تُدْمِي القَلْبَ، لَقَدْ تَبَدَّلَ حَالُهَا مِنْ أُمَّةٍ مَتْبُوعَةٍ إلى أُمَّةٍ تَابِعَةٍ، وَمِنْ أُمَّةٍ مُنْتِجَةٍ إلى أُمَّةٍ مُسْتَهْلِكَةٍ، وَمِنْ أُمَّةٍ مُصَدِّرَةٍ إلى أُمَّةٍ مُسْتَوْرِدَةٍ حِسَّاً وَمَعْنَىً، تَسْتَوْرِدُ جُلَّ أُمُورِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا تَسْتَوْرِدُ شَتَّى صُنُوفِ الأَفْكَارِ وَالعَوَامِلِ المُهَدِّمَةِ، لَقَدْ صَارَ حَالُ الأُمَّةُ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي كَحَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الذينَ قَالَ تعالى لَهُمْ: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾؟

يَا عِبَادَ اللهِ: أُمَّةُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحَقَّةُ هِيَ أُمَّةٌ مَتْبُوعَةٌ لَا تَابِعَةٌ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾.

أُمَّةٌ تُحَاصِرُ وَلَا تُحَاصَرُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾. أُمَّةٌ عَزِيزَةٌ ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.

أُمَّةٌ شَرَّفَهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِتَشْرِيعٍ وُصِفَ بِالتَّمَامِ وَالكَمَالِ، قَالَ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينَاً﴾. وَتَوَلَّى حِفْظَ تَـشْرِيعِهَا، فَقَالَ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. فَهِيَ أُمَّةٌ لَيْسَتْ بِحَاجَةٍ إلى تَشْرِيعَاتٍ وَضْعِيَّةٍ، وَلَا إلى تَشْرِيعَاتٍ مُسْتَوْرَدَةٍ.

وَطَمْأَنَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الأُمَّةَ عَنْ دِينِهَا بِقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾.

وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَمْأَنَ أُمَّتَهُ عَنْ دِينِهَا، أَنَّهُ سَيَعُمُّ أَرْجَاءَ المَعْمُورَةِ، فَقَالَ: «لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ بَيْتِ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، يُعِزَّهُمُ اللهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَلَا يَدِينُوا لَهَا» رواه الإمام الحاكم.

السِّرُّ في تَحَوُّلِ الأُمَّةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ تَحَوُّلَ الأُمَّةِ هَذَا التَّحَوُّلَ المُزْرِيَ مَا هُوَ إِلَّا بِسَبَبِ البُعْدِ عَنْ دِينِ اللهِ تعالى سُلُوكَاً وَعَمَلَاً وَتَطْبِيقَاً لِمَا جَاءَ بِهِ.

هَذَا التَّحَوُّلُ المُزْرِي مَا هُوَ إِلَّا بِسَبَبِ الانْكِبَابِ عَلَى الشَّهَوَاتِ وَالمَلَذَّاتِ العَاجِلَةِ الفَانِيَةِ.

هَذَا التَّحَوُّلُ المُزْرِي مَا هُوَ إِلَّا بِسَبَبِ التَّفَرُّقِ وَالتَّشَرْذُمِ وَاخْتِلَافِ الكَلِمَةِ.

هَذَا التَّحَوُّلُ المُزْرِي مَا هُوَ إِلَّا بِسَبَبِ عَدَمِ تَقْوَى اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَتَوَجَّهُ إلى الأُمَّةِ لِأَقُولَ لِنَفْسِي وَلَهَا: اتَّقِي اللهَ يَا أُمَّةَ الإِسْلَامِ، وَأَنْتِ تَسْتَقْبِلِينَ رَأْسَ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ الجَدِيدَةِ، وَكُونِي عَلَى حَذَرٍ مِنَ التَّقْلِيدِ لِمَنْ يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَإلى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَكُونِي عَلَى حَذَرٍ مِنَ الانْدِرَاجِ تَحْتَ وَعِيدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرَاً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعَاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ».

قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟

قَالَ: «فَمَنْ!» رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ نَعِيشُ في كَرْبٍ وَبَلَاءٍ وَشِدَّةٍ، فَهَلْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ تَسْتَعِدَّ الأُمَّةُ لِمَعْصِيَةِ اللهِ تعالى في لَيْلَةِ رَأْسِ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرَاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيرَاً﴾؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ سَادَتِ الأُمَّةُ، وَكَانَتْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ، عِنْدَمَا كَانَتْ مُتَنَاصِحَةً بِتَقْوَى اللهِ تعالى، فَيَا مَنْ يَسْتَعِدُّ لِإِحْيَاءِ رَأْسِ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ، اتَّقِ اللهَ، وَانْظُرْ إلى مَا تَسْتَعِدُّ لَهُ لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ، هَلْ يُسْخِطُ رَبَّكَ، أَمْ يُرْضِي رَبَّكَ؟

هَلْ مَا تَسْتَعِدُّ لَهُ لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ يَسْتَجْلِبُ رَحْمَةَ اللهِ تعالى عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَلَدِكَ، أَمْ يَجْلِبُ نُزُولَ الغَضَبِ وَالعَذَابِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى؟

تَذَكَّرُوا يَا عِبَادَ اللهِ، وَأَنْتُمْ تَسْتَعِدُّونَ لِإِحْيَاءِ رَأْسِ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ، بِأَنَّ أُمَّتَنَا مُمَزَّقَةٌ، وَأَنَّ دِمَاءَنَا مَسْفُوكَةٌ، وَأَنَّ بُيُوتَنَا مُهَدَّمَةٌ، وَأَنَّ شَبَابَنَا ضَائِعُونَ، وَأَنَّ أُولَى القِبْلَتَيْنِ وَثَالِثَ الحَرَمَيْنِ أَسِيرٌ في أَيَادِي قَوْمٍ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ؛ فَلِمَنْ تُقَلِّدُونَ في رَأْسِ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ؟

تَذَكَّرُوا يَا عِبَادَ اللهِ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلَا تَظْلِمُوا» رواه الترمذي عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 20/ ربيع الثاني /1440هـ، الموافق: 28/ كانون الأول / 2018م

 2018-12-28
 4522
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

04-07-2025 157 مشاهدة
946ـ خطبة الجمعة: تفرسوا وجوه الناس

أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد

 04-07-2025
 
 157
25-06-2025 472 مشاهدة
945ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾

لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد

 25-06-2025
 
 472
19-06-2025 837 مشاهدة
944ـ خطبة الجمعة: وقفة تساءل وتأمل

لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد

 19-06-2025
 
 837
12-06-2025 995 مشاهدة
943ـ خطبة الجمعة: هل تشعر بآلام الآخرين؟

لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد

 12-06-2025
 
 995
04-06-2025 408 مشاهدة
942ـ خطبة الجمعة: ماذا نقول لإخوتنا في غزة أيام العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد

 04-06-2025
 
 408
04-06-2025 321 مشاهدة
941ـ خطبة عيد الأضحى 1446هـ: المغزى الحقيقي من العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ ... المزيد

 04-06-2025
 
 321

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3235
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424746784
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :