33ـ أشراط الساعة: زخرفة المساجد

33ـ أشراط الساعة: زخرفة المساجد

 

 أشراط الساعة

33ـ زخرفة المساجد

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من أَشْرَاطِ السَّاعَةِ التي حَدَّثَ عَنهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، والتي ظَهَرَتْ، وَمَا زَالَتْ مُسْتَمِرَّةً إلى أَيَّامِنَا هذهِ، زَخْرَفَةُ المَسَاجِدِ، وتَزْيِينُهَا، وتَشْيِيدُ بُنْيَانِهَا، والتَّبَاهِي في ذلكَ كُلِّهِ.

روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ».

وروى النسائي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ».

المَسَاجِدُ أَسْوَاقٌ لِتِجَارَةِ الآخِرَةِ:

أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ المَسَاجِدَ هيَ أَسْوَاقٌ لِتِجَارَةِ الآخِرَةِ، لا لِتَجَارَةِ الدُّنيَا، تُجَّارُ الآخِرَةِ هُم عُمَّارُ المَسَاجِدِ، وتُجَّارُ الدُّنيَا هُم عُمَّارُ الأَسْوَاقِ، والمَسَاجِدُ في الإِسْلامِ أَسْوَاقُ الآخِرَةِ، بَل هيَ أَسْوَاقُ الجَنَّةِ، ومَيَادِينُ التِّجَارَةِ مَعَ اللهِ تعالى، لأَنَّهَا أَسْوَاقُ الأَرْوَاحِ المُؤْمِنَةِ، والقُلُوبِ المُطْمَئِنَّةِ.

المَسَاجِدُ في إِسْلامِنَا هيَ أَمَاكِنُ لِتَرْبِيَةِ النُّفُوسِ وتَهْذِيبِهَا، وفِيهَا تُصْرَفُ الأَدْوِيَةُ الرَّبَّانِيَّةُ، ويُعَالَجُ مَرْضَى القُلُوبِ والنُّفُوسِ، لذلكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ للمَسَاجِدِ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مَكَانَةٌ سَامِيَةٌ، ومَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، وحَصَانَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَلِيقُ بِهَا، وكَيفَ لا يَكُونُ كذلكَ، وهيَ بُيُوتُ مَالِكِ المُلْكِ، ومَلِكِ المُلُوكِ؟

إِنَّ مُلُوكَ الدُّنيَا لا يَرْضَوْنَ ولا يَسْمَحُونَ أَنْ يُسَاءَ الأَدَبُ في بَلاطِهِم وقُصُورِهِم وبُيُوتِهِم، ولا أَنْ تُرْفَعَ الأَصْوَاتُ في حَضْرَتِهِم، ولا أَنْ يَكْثُرَ الضَّجِيجُ في أَمَاكِنِ تَوَاجُدِهِم، ولا أَنْ تَحْدُثَ حَرَكَةٌ أو لَغَظٌ غَيْرُ مَرْضِيَّينِ عِنْدَهُم.

أيُّها الإخوة الكرام: عِنْدَمَا كَانَتِ المَسَاجِدُ عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَسْوَاقَاً لِتِجَارَةِ الآخِرَةِ، تَخَرَّجَ مِنهَا الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، تَخَرَّجَ مِنهَا العَبَادِلَةُ الأَرْبَعَةُ، عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، رَضِيَ اللهُ عَنهُم جَمِيعَاً، تَخَرَّجَ مِنهَا المُهَاجِرُونَ والأَنْصَارُ، والتَّابِعُونَ، والأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ، والفُقَهَاءُ، وأَهْلُ التَّقْوَى والصَّلاحِ، والعُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ، وكَانُوا رَضِيَ اللهُ عَنهُم رُعَاةً للأُمَمِ، بِبَرَكَةِ بُيُوتِ اللهِ عزَّ وجلَّ التي رَبَطَتْهُم باليَوْمِ الآخِرِ.

مَسَاجِدُنَا اليَوْمَ:

أيُّها الإخوة الكرام: لَكِنْ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ اليَوْمَ أَنَّنَا عَمَرْنَا مَسَاجِدَنَا بالِبِنَاءِ، ولَمْ نَعْمُرْهَا بِذِكْرِ اللهِ تعالى، وتِلاوَةِ القُرْآنِ، وقِرَاءَةِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ، ولَمْ نَعْمُرْهَا بِرِيَاضِ الجَنَّةِ.

لقد عَمَرْنَا مَسَاجِدَنَا اليَوْمَ بالزَّخَارِفِ والأَلْوَانِ، عَمَرْنَاهَا لِنَتَبَاهَى بِهَا، فَأَصْبَحَتْ مَسَاجِدُنَا اليَوْمَ مَظَاهِرَ، وأَصْبَحَتْ آيَاتٍ في حُسْنِ البِنَاءِ، وَرَوْعَةِ الهَنْدَسَةِ، تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ، وتَسُرُّهُمْ في مَظْهَرِهَا، إلا أَنَّهَا في مَخْبَرِهَا وجَوْهَرِهَا لَمْ تُؤَدِّ الرِّسَالَةَ، ولَمْ تُحَقِّقْ هَدَفَاً، فَعُقِمَ جِيلُهَا، وسَكَتَتْ أَلْسِنَتُهَا، واخْتَفَتْ حَلَقَاتُهَا، وانْطَفَأَ نُورُهَا، وانْعَدَمَ دَوْرُهَا.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد ضَعُفَتِ الأُمَّةُ ومَرِضَتْ، لأَنَّهَا اهْتَمَّتْ بالمَظْهَرِ على حِسَابِ الجَوْهَرِ، وبالقُشُورِ على حِسَابِ اللُّبَابِ، وبالكَمِّ على حِسَابِ الكَيْفِ، أَفَلَ نَجْمُ الأُمَّةِ، ودَبَّ فِيهَا الوَهَنُ والخَوَرُ والعَجَزُ.

حُكْمُ زَخْرَفَةِ المَسَاجِدِ:

أيُّها الإخوة الكرام: لقد ذَهَبَ جُمهُورُ الفُقَهَاءِ إلى كَرَاهَةِ زَخْرَفَةِ المَسَاجِدِ التي تُلْهِي المُصَلِّي عَن صَلاتِهِ، لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ نَهَى عن ذلكَ، روى أبو داود عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ».

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.

وروى الإمام البخاري أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ ـ أي: صُنْهُم واسْتُرْهُم ـ مِن الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ.

وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلَاً.

وقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إذَا حَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ، وَزَخْرَفْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ، فَالدَّبَارُ عَلَيْكُمْ         ـ أي: الهَلاكُ ـ.

وقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إنَّ الْقَوْمَ إذَا زَيَّنُوا مَسَاجِدَهُمْ، فَسَدَتْ أَعْمَالُهُمْ.

خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ زَخْرَفَةَ المَسَاجِدِ تَشْغَلُ المُصَلِّينَ عَن صَلاتِهِم، وتَذْهَبُ بالخُشُوعِ، وتَنْزِعُ الطُّمَأْنِينَةَ من القُلُوبِ، وإِنَّ التَّبَاهِي بِبِنَائِهَا صَارَ أَمْرَاً ظَاهِرَاً لِكُلِّ أَحَدٍ.

هذا يَتَبَاهَى بالمِئذَنَةِ التي شَيَّدَهَا، هيَ أَطْوَلُ مِئذَنَةٍ في العَالَمِ، وهذا قُبَّةُ مَسْجِدِهِ أَكْبَرُ قُبَّةٍ في العَالَمِ، وهذا مَسْجِدُهُ أَوْسَعُ مَسْجِدٍ في العَالَمِ....... وكُلُّ ذلكَ مُخَالِفٌ لِهَدْيِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.

إِنَّ عِمَارَةَ بُيُوتِ اللهِ عزَّ وجلَّ إِنَّمَا تَكُونُ بالطَّاعَةِ، وذِكْرِ اللهِ تعالى، وتِلاوَةِ القُرْآنِ العَظِيمِ، والتَّفَقُّهِ في دِينِ اللهِ تعالى، وتَهْذِيبِ النُّفُوسِ وتَزْكِيَتِهَا.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَصْبَحَتِ المَسَاجِدُ اليَوْمَ تَئِنُّ من فَقْدِ المُصَلِّينَ، من فَقْدِ رِجَالٍ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعُ عَن ذِكْرِ اللهِ، وإِقَامِ الصَّلاةِ، وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، يَخَافُونَ يَوْمَاً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأَبْصَارُ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 16/ شعبان /1436هـ، الموافق: 3/حزيران / 2015م

 2015-06-03
 5210
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  أشراط الساعة

23-12-2015 13730 مشاهدة
51ـ أشراط الساعة: تقارب الزمان

فيا أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ التي حَدَّثَنَا عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَلَمَّا تَظْهَرْ بَعْدُ، تَقَارُبُ الزَّمَانِ، وَقَد وَقَعَ مَبَادِيهِ وَلَمْ يَسْتَحْكِمْ. ... المزيد

 23-12-2015
 
 13730
09-12-2015 18593 مشاهدة
50ـ أشراط الساعة: قلة الرجال, وكثرة النساء

من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ التي تَحَدَّثَ عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ذَهَابُ الرِّجَالِ، وَكَثْرَةُ النِّسَاءِ، بِحَيْثُ يَكُونُ لِكُلِّ خَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمٌ وَاحِدٌ. ... المزيد

 09-12-2015
 
 18593
02-12-2015 6951 مشاهدة
49ـ أشراط الساعة: مرور الرجل بقبر, يتمنى لو كان مكانه

من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ التي أَخْبَرَ عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، والتي لَمْ تَقَعْ بَعْدُ بِشَكْلٍ عَامٍّ؛ أَنْ يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرٍ من القُبُورِ، فَيَتَمَرَّغَ عَلَيْهِ، ... المزيد

 02-12-2015
 
 6951
25-11-2015 29307 مشاهدة
48ـ أشراط الساعة: الريح الطيبة التي تأخذ أرواح المؤمنين

من عَلامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ التي أَخْبَرَ عَنْهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: إِرْسَالُ رِيحٍ لَطِيفَةٍ بَارِدَةٍ تَقْبِضُ أَرْوَاحَ المُؤْمِنِينَ، ... المزيد

 25-11-2015
 
 29307
17-11-2015 6338 مشاهدة
47ـ أشراط الساعة: شمول الإسلام أرجاء المعمورة

مِن عَلَامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ: اِنْتِشَارُ الإِسْلَامِ في أَرْجَاءِ المَعْمُورَةِ، حَتَّى يَشْمَلَ جَمِيعَ مَا على سَطْحِ الأَرْضِ، بِحَيْثُ لا يَبْقَى بَيْتُ حَجَرٍ، ولا وَبَرٍ، ولا مَدَرٍ، إلا وَيَدْخُلُهُ هذا الدِّينُ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، ... المزيد

 17-11-2015
 
 6338
11-11-2015 11507 مشاهدة
46ـ أشراط الساعة: نُزُولُ الخِلَافَةِ فِي أَرْضِ الشَّامِ

مِن عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا سَيُّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نُزُولُ الخِلَافَةِ فِي أَرْضِ الشَّامِ. ... المزيد

 11-11-2015
 
 11507

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5633
المقالات 3197
المكتبة الصوتية 4873
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 419061294
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :