517ـ خطبة الجمعة: أين العقول التي تعقل أصحابها عن الإجرام؟

517ـ خطبة الجمعة: أين العقول التي تعقل أصحابها عن الإجرام؟

 

517ـ خطبة الجمعة: أين العقول التي تعقل أصحابها عن الإجرام؟

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ أَهَمَّ مَا يُمَيِّزُ الإِنْسَانَ المُسْلِمَ المُلْتَزِمَ عَنْ غَيْرِهِ هُوَ صُورَةُ تَعَامُلِهِ مَعَ اللهِ تعالى، وَمَعَ الآخَرِينَ، لِأَنَّهُ أُوتِيَ عَقْلَاً مُنَوَّرَاً، فَهُوَ يُرْضِي بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُعْطِي صُورَةً حَسَنَةً رَائِعَةً لِلْآخَرِينَ عَنْ هَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ.

صَاحِبُ العَقْلِ المُنَوَّرِ انْطَلَقَ في تَعَامُلِهِ مَعَ الآخَرِينَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلَاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ﴾.

وَمِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

صَاحِبُ العَقْلِ المُنَوَّرِ عَلِمَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إلى اللهِ تعالى بِالحَالِ أَبْلَغُ بِكَثِيرٍ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالقَالِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: رُبَّ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الخُلُقِيَّةِ الحَسَنَةِ التي دَعَانَا إِلَيْهَا دِينُنَا الحَنِيفُ يَكُونُ لَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ لَا يُمْكِنُ مُقَارَنَتُهُ بِنَتَائِجِ الوَعْظِ المُبَاشِرِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ بِخُلُقٍ وَقَوْلٍ فَظٍّ غَلِيظٍ؟ لِأَنَّ هَذَا مُنَفِّرٌ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. وَكَذَلِكَ تَنْفِرُ النُفُوسُ مِنَ الكَلَامِ الذي تَتَصَوَّرُ أَنَّ للنَّاطِقِ بِهِ مَصْلَحَةً، فَكَيْفَ إِذَا أفْصَحَ بِلِسَانِهِ عَنْ مَصَالِحِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ التي يَبْتَغِيهَا بِاسْمِ الإِسْلَامِ، وَأَضَافَ إِلَيْهَا الفَظَاظَةَ وَالغَلَاظَةَ؟

أَرْوَاحٌ تَزْهَقُ مِنْ أَجْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا:

يَا عِبَادَ اللهِ: الطَّامَّةُ الكُبْرَى أَنْ تَجِدَ في هَذَا الزَّمَانِ أَقْوَامَاً يَدَّعُونَ التَّمْكِينَ، وَرَجَاحَةَ العَقْلِ، وَالحِرْصَ على دَعْوَةِ النَّاسِ إلى دِينِ اللهِ تعالى، وَهُمْ في الحَقِيقَةِ إلى الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ يَرْكُضُونَ، وَمَعَ النِّفَاقِ وَسُوءِ الأَخْلَاقِ يُجَرُّونَ، وَهُمْ بِذَلِكَ يُخَالِفُونَ حَتَّى مُسَمَّى العَقْلِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: العَقْلُ مَا سُمِّيَ عَقْلَاً إِلَّا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنِ الإِقْدَامِ على الشَّهَوَاتِ إِذَا تَحَرَّكَتْ، وَيَمْنَعُ نَفْسَهُ عَنِ اتِّبَاعِ الهَوَى المُضِلِّ، وَيُلْزِمُ صَاحِبَهُ صِرَاطَ اللهِ تعالى  المُسْتَقِيمَ، وَيَجْعَلُهُ يَعْقِلُ عَنِ اللهِ تعالى أَمْرَهُ وَنَهْيَه، وَيُمَسِّكُهُ شَرْعَ اللهِ تعالى الحَنِيفَ.

صَاحِبُ العَقْلِ المُنَوَّرِ هُوَ الذي يُلْزِمُ نَفْسَهُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾

صَاحِبُ العَقْلِ المُنَوَّرِ يُلْزِمُ نَفْسَهُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيَّاً أَوْ فَقِيرَاً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾.

صَاحِبُ العَقْلِ المُنَوَّرِ يُلْزِمُ نَفْسَهُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: صَاحِبُ العَقْلِ المُنَوَّرِ هُوَ مَنْ حَبَسَ نَفْسَهُ وَرَدَّهَا عَنْ هَوَاهَا إلى مَا جَاءَ بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَمَلَكَهَا في سَاعَةِ الغَضَبِ.

صَاحِبُ العَقْلِ المُنَوَّرِ هُوَ مَنْ كَانَ حَرِيصَاً على إِحْيَاءِ النُفُوسِ لَا على قَتْلِهَا.

صَاحِبُ العَقْلِ المُنَوَّرِ هُوَ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعَاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعَاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرَاً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَـمُسْرِفُونَ﴾.

صَاحِبُ العَقْلِ المُنَوَّرِ هُوَ الذي يَلْتَمِسُ الأَعْذَارَ، وَيُحْسِنُ الظَّنَّ بِالآخَرِينَ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ خِلَالِ الظَّاهِرِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَجْرَمَ في حَقِّ النَّاسِ جَمِيعَاً عِنْدَمَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ خِلَالِ بَوَاطِنِهِمُ التي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَرْوَاحٌ تُزْهَقُ، وَنِسَاءٌ تُرَمَّلٌ، وَأَطْفَالٌ تُيَتَّمُ، وَبُيُوتٌ تُهَدَّمُ، وَآمِنُونَ يُرَوَّعُونَ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ الحُكْمِ على بَوَاطِنِهِمْ، فَأَيْنَ العُقُولُ التي تَعْقِلُ أَصْحَابَهَا عَنْ مَصِيرٍ مُخْزٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّدَاً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدَاً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابَاً عَظِيمَاً﴾؟

أَيْنَ العُقُولُ التي تَعْقِلُ أَصْحَابَهَا عَنِ الإِجْرَامِ في حَقِّ هَذَا الدَّينِ، وَفِي حَقِّ شَبَابِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَفِي حَقِّ أَعْرَاضِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَفِي حَقِّ مُمْتَلَكَاتِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَفِي حَقِّ خَيْرَاتِهَا وَأَمْوَالِهَا؟

أَيْنَ العُقُولُ التي تَعْقِلُ أَصْحَابَهَا عَنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ بِهَذِهِ الأُمَّةِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى لِلْإِنْسَانِ أَنْ جَعَلَ لَهُ عَقْلَاً مَيَّزَهُ بِهِ عَنْ سَائِرِ المَخْلُوقَاتِ، فَالعَاقِلُ هُوَ الذي لَا يَغْتَرُّ وَلَا يَغْتَبِطُ بِصِفَةٍ يَفُوقُهُ فِيهَا سَبُعٌ أَو بَهِيمَةٌ أَو جَمَادٌ.

العَاقِلُ يَفْتَخِرُ وَيَغْتَبِطُ بِنِعْمَةِ العَقْلِ الذي عَقَلَهُ عنْ خَسَارَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَأَعْطَى صُورَةً حَسَنَةً عَنْ دِينِهِ وَإِسْلَامِهِ؛ وَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:

وَأَفْضَلُ قَـسْـمِ اللهِ لِلْـمَرْءِ عَقْـلُهُ   ***   فَلَيْسَ مِنَ الخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ

إذَا أَكْـمَـلَ الرَّحْمَنُ لِلْـمَرْءِ عَـقْلَهُ   ***   فَـقَـدْ كَـمُـلَـتْ أَخْلَاقُهُ وَمَآرِبُهْ

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا لُبَّاً وَعَقْلَاً يَعْقِلُنَا عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَنَقْصٍ وَضَرَرٍ في دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 4/ صفر الخير /1438هـ، الموافق: 4/تشرين الثاني / 2016م

 2016-11-04
 2573
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

04-07-2025 91 مشاهدة
946ـ خطبة الجمعة: تفرسوا وجوه الناس

أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد

 04-07-2025
 
 91
25-06-2025 429 مشاهدة
945ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾

لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد

 25-06-2025
 
 429
19-06-2025 804 مشاهدة
944ـ خطبة الجمعة: وقفة تساءل وتأمل

لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد

 19-06-2025
 
 804
12-06-2025 958 مشاهدة
943ـ خطبة الجمعة: هل تشعر بآلام الآخرين؟

لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد

 12-06-2025
 
 958
04-06-2025 396 مشاهدة
942ـ خطبة الجمعة: ماذا نقول لإخوتنا في غزة أيام العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد

 04-06-2025
 
 396
04-06-2025 308 مشاهدة
941ـ خطبة عيد الأضحى 1446هـ: المغزى الحقيقي من العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ ... المزيد

 04-06-2025
 
 308

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3235
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424692475
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :