23ـ الحق لا بد أن يظهر مهما طال أمده
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَرْسَاً عَمَلِيَّاً، أَلَا وَهُوَ وُجُوبُ دَفْعِ الشُّبُهَاتِ عَنْ أَنْفُسِنَا، وَأَنْ نُثْبِتَ الحَقَّ بِإِثْبَاتِ بَرَاءَتِنَا مِنَ التُّهَمِ بِالأَدِلَّةِ القَاطِعَةِ، أَو بِإِقْرَارِ المُتَّهِمِ المُفْتَرِي.
هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ أَنْ أَوَّلَ للمَلِكِ رُؤْيَاهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لِإِحْضَارِهِ، قَالَ تعالى عَنْ هَذَا المَوْقِفِ: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾.
لَقَدْ طَلَبَهُ المَلِكُ، وَلَكِنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَفَضَ وَأَبَى إِلَّا بِإِثْبَاتِ بَرَاءَتِهِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ إِقْرَارِ النِّسَاءِ مَعَ زَوْجَةِ العَزِيزِ، لِأَنَّ اعْتِقَادَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ الذي يُنَجِّي مِنْ كُلِّ كَرْبٍ وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ إِنَّمَا هُو اللهُ تعالى، كَمَا بَيَّنَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الشُّبُهَاتِ مِنْ حَيْثُ الأَسْبَابُ، وَهَذَا مَا أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ الحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
«عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَلَّمَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا نَقِفَ مَوَاقِفَ التُّهْمَة، حَتَّى وَلَو كَانَ أَحَدُنَا أَطْهَرَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ، لِأَنَّ نُفُوسَ البَشَرِ قَدْ يُسْرِعُ إِلَيْهَا الشَّكُّ وَالرَّيْبُ مِنْ خِلَالِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ في نُفُوسِ الآخَرِينَ.
روى الإمام البخاري عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي المَسْجِدِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ، مَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ».
فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئَاً».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ حَيَاءٍ أَنْ يَكُونَ حَرِيصَاً عَلَى سُمْعَتِهِ حَتَّى تَبْقَى سُمْعَتُهُ كَرِيمَةً بَيْضَاءَ نَاصِعَةً لَا تُمَسُّ بِشَائِبَةٍ أَبَدَاً، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ حَرِيصٌ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى الإِفْسَادِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ إِيقَاعِهِمْ في سُوءِ الظَّنِّ.
مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ العِلْمِ وَالتَّقْوَى وَالصَّلَاحِ خَاصَّةً أَنْ لَا يَقِفُوا مَوَاقِفَ التُّهَمِ، وَلَو كَانَ الوَاحِدُ مِنْهُمْ أَبْرَأَ مِنْ أَيِّ بَرِيءٍ، وَلَو كَانَ أَطْهَرَ مِنْ مَاءِ المُزْنِ، لِأَنَّ مَوَاطِنَ الرِّيَبِ وَالتُّهَمِ تَجْعَلُ الآخَرِينَ يَقَعُونَ في عِرْضِ الإِنْسَانِ وَدِينِهِ، وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» رواه الإمام مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ لَمْ يَتَّقِ مَوَاطِنَ الرِّيَبِ وَالتُّهَمِ قَدْ تُلْحَقُ بِهِ السُّمْعَةُ السَّيِّئَةُ وَالتُّهْمَةُ فَتُلْصَقُ بِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ تعالى، وَلْنَسْمَعْ هَذَا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عُزَيْزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ.
فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي، وَلَا أَخْبَرْتِنِي.
فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ».
فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَتْ زَوْجَاً غَيْرَهُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَكُنْ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ الحَقَّ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مَهْمَا طَالَ أَمَدُهُ، فَهَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَقِيَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَالنَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ في أَرْجَاءِ مِصْرَ بِأَنَّهُ يَهْوَى امْرَأَةَ العَزِيزِ، وَلَبِثَ في السِّجْنِ مَا شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يَلْبَثَ فِيهِ إلى أَنْ ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ، وَقَالَ النِّسْوَةُ مَعَ امْرَأَةِ العَزِيزِ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ تعالى: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
نَعَمْ لَقَدْ أَبَى سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الخُرُوجَ مِنَ السِّجْنِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُقِرَّ النِّسْوَةُ بِمَا فِيهِنَّ امْرَأَةُ العَزِيزِ بِالحَقِيقَةِ، وَأَقَرَّ النِّسْوَةُ بِمَا فِيهِنَّ امْرَأَةُ العَزِيزِ؛ فَالذَّنْبُ لَا يُنْسَى.
وَهَكَذَا أَعْلَنَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ مَعَ النِّسْوَةِ: ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾. أَيْ: تَبَيَّنَ وَظَهَرَ ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾. وَلَكِنْ مَاذَا يَنْفَعُ بَعْدَ هَذَا الظُّلْمِ الشَّدِيدِ؟
وَمَاذَا فَعَلَ المَلِكُ بَعْدَ سَمَاعِ الإِقْرَارِ، مَعَ أَنَّ الشَّاهِدَ شَهِدَ بِصِدْقِهِ مِنَ البِدَايَةِ؟
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ الظَّالِمِينَ، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا الظَّالِمِينَ. آمين.
تاريخ الكلمة
** ** **
الاثنين: 14/ ربيع الأول /1441هـ، الموافق: 11/ تشرين الثاني / 2019م
ارسل إلى صديق |
الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد
مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد
ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد
حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد
وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد
يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد