20ـ ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَمَا زِلْنَا مَعَ سِيرَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذي نَسْتَمِدُّ مِنْهُ الإِيمَانَ، وَالأَدَبَ، وَالحِلْمَ، وَالوَقَارَ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَقَدَرِهِ.
﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بَعْدَ أَنْ فَسَّرَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ للسَّجِينَيْنِ رُؤْيَاهُمَا ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾.
هَكَذَا قَدَّرَ اللهُ تعالى، وَكَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الإِيمَان وَالتَّقْوَى أَنَّ قَدَرَ اللهَ للمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ إِنْ هُمْ رَضُوا بِهَذَا القَدَرِ، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «عَجَبَاً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرَاً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرَاً لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
نَعَمْ، هَذَا هُوَ حَالُ المُؤْمِنِ أَمَامَ النِّعَمِ وَأَمَامَ الابْتِلَاءَاتِ، إِنْ مَرِضَ حَمِدَ اللهَ تعالى فَأُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ رُزِقَ حَمِدَ اللهَ تعالى فَأُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَكَذَا في سَائِرِ أَحْوَالِهِ فَهُوَ يَتَقَلَّبُ بَيْنَ نِعْمَتَيِ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: السِّجْنُ بُؤْسُهُ شَدِيدٌ ـ أَجَارَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ ذَلِكَ ـ وَالسِّجْنُ لَا يَتَحَمَّلُهُ إِلَّا الصَّابِرُونَ، وَلَكِنَّهُمْ يَرْجُونَ اللهَ تعالى الخُرُوجَ، فَهَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ ﴿لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يَرْجُو الخُرُوجَ، وَلَكِنَّ اللهَ تعالى لَمْ يُرِدْ في ذَلِكَ الوَقْتِ لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا اللهُ تعالى ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾. هَذَا قَضَاءُ اللهُ تعالى وَقَدَرُهُ، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَحَاشَاهُ أَنْ يَغْفُلَ عَنِ الهَمِّ الذي أَصَابَ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَحَاشَاهُ أَنْ يَغْفُلَ عَنِ الكَرْبِ الذي يُعَانِيهِ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
الأُمُورُ يُدَبِّرُهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ الذي يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ، وَصَدَقَ اللهُ القَائِلُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾.
أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنَالَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الحَسَنَاتِ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى هَذَا البَلَاءِ الطَّوِيلِ في السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ عِفَّتِهِ وَطَهَارَتِهِ وَنَقَائِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ الخَلْقَ كَيْفَ يَكُونُ صَبْرُ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَضَاءُ اللهِ تعالى وَقَدَرُهُ هُوَ خَيْرٌ في حَقِّنَا، فَإِنْ رَضِيَ العَبْدُ بِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَبِقَدَرِهِ فِيمَا يَكْرَهُ العَبْدُ كَفَّرَ اللهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذَىً، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَالهُمُومُ وَالأَحْزَانُ لَهَا ثَوَابٌ إِنْ صَبَرَ العَبْدُ وَاحْتَسَبَ.
وَإِذَا ابْتُلِيَ الصَّالِحُونَ بِالهُمُومِ وَالأَحْزَانِ كَانَتْ سَبَبَاً في رَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لِمَا روى الإمام أحمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنَ اللهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ، ابْتَلَاهُ اللهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلُّ قَضَاءٍ مِنَ اللهِ تعالى خَيْرٌ في حَقِّ العَبْدِ المُؤْمِنِ، سَوَاءٌ كَانَ القَضَاءُ شَرْعِيَّاً وَتَكْلِيفَاً، أَو كَانَ قَضَاءً كَوْنِيَّاً.
فَمَنِ امْتَثَلَ قَضَاءَ اللهِ تعالى الشَّرْعِيَّ الذي هُوَ تَكْلِيفٌ لَهُ سَعِدَ دُنْيَا وَأُخْرَى، مَنِ امْتَثَلَ الأَوَامِرَ وَاجْتَنَبَ النَّوَاهِيَ سَعِدَ، لِأَنَّ المَأْمُورَاتِ وَالمَنْهِيَّاتِ كُلَّهَا لِصَالِحِ العَبْدِ، وَإِنْ جَهِلَ الحِكْمَةَ مِنَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارَاً، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا».
مَنِ امْتَثَلَ قَضَاءَ اللهِ تعالى التَّكْلِيفِيَّ نَجَا يَوْمَ القِيَامَةِ، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ،، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ، فَلَمَّا خَلَقَ اللهُ النَّارَ، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَّمَ لِقَضَاءِ اللهِ تعالى الكَوْنِيِّ، وَرَضِيَ بِمَا قَدَّرَ اللهُ تعالى عَلَيْهِ، سَعِدَ دُنْيَا وَأُخْرَى.
وَهَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَضْرِبُ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ في صَبْرِهِ وَهُوَ في السِّجْنِ، إِذْ كَانَ دَاعِيَاً إلى اللهِ تعالى، مُحَبِّبَاً اللهَ تعالى إلى العِبَادِ، وَمُقَرِّبَاً الخَلْقَ مِنَ اللهِ تعالى.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَالعَفْوَ وَالعَافِيَةَ. آمين.
تاريخ الكلمة
** ** **
الاثنين: 1/ صفر /1441هـ، الموافق: 30/ أيلول / 2019م
ارسل إلى صديق |
الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد
مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد
ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد
حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد
وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد
يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد