50ـ ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا﴾

50ـ ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا﴾

50ـ ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الحَقَائِقَ سَتَنْجَلِي، طَالَ الزَّمَنُ أَمْ قَصُرَ، حَصَلَ الذي حَصَلَ مِنْ إِخْوَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمَّا انْجَلَتِ الحَقِيقَةُ بِمَا فَعَلُوا، وَقَفُوا أَمَامَ أَبِيهِمْ وَقَدْ ذَابُوا حَيَاءً مِنْ صَنِيعِهِمْ وَقَالُوا بِلِسَانٍ وَاحِدٍ: ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾

﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سِيَاقُ الحَدِيثِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَا أَبَانَا سَامِحْنَا، وَاعْفُ عَنَّا، ثُمَّ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ تعالى لَهُمْ.

لِمَاذَا عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ؟

حَيَاءً مِنْهُمْ أَمَامَ أَبِيهِمْ، لِأَنَّ الذُّنُوبَ تُقَصِّرُ الأَلْسُنَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ تعالى لَهُمْ، لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ مَزَّقَ العَائِلَةَ، وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُمْ خَطَأً عَابِرًا، بَلْ كَانَ مَقْصُودًا.

لَقَدْ أَحَسُّوا بِعِظَمِ الذَّنْبِ، وَهَذَا أَوَّلُ طَرِيقِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، ثُمَّ طَلَبُوا المَغْفِرَةَ مِنَ اللهِ تعالى، لَقَدْ طَلَبُوا مِنْ أَبِيهِمْ مَرْضَاتَهُ، وَفَتْحَ قَلْبِهِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ هُوَ القَرِيبُ مِنَ اللهِ تعالى، وَأَقَرُّوا بِمَا فَعَلُوا.

﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَهُنَا يَتَجَلَّى مَوْقِفُ كَظْمِ الغَيْظِ، وَتَتَجَلَّى رَحْمَةُ الأَبِ بِأَبْنَائِهِ، فَلَمْ يُعَبِّرْ عَمَّا في نَفْسِهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الذي حَصَلَ، وَلَكِنْ أَجَابَهُمْ حَسَبَ طَلَبِهِمْ؛ نَعَمْ هَكَذَا يَكُونُ شَأْنُ الأَبِ المُرَبِّي الحَرِيصِ عَلَى سَلَامَةِ دِينِ وَسُلُوكِ أَبْنَائِهِ، حَنَانُ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَحْوَ أَوْلَادِهِ مَا فَارَقَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَخُصُّ أَخَاهُمْ يُوسُفَ وَأَخَاهُ بِفَضْلٍ مِنَ المَحَبَّةِ لِصِغَرِهِمَا وَحَاجَتِهِمَا إلى العَطْفِ الأَبَوِيِّ، ثُمَّ زَادَتْهُ غُرْبَةُ سَيِدِّنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجْدًا عَلَيْهِ وَمَحَبَّةً وشَفَقَةً، لِذَا لَمْ يَلُمْهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَاضِيَهُمْ مَعَهُ وَمَعَ أَخِيهِم، بَلْ وَعَدَهُمْ وَعْدًا مُؤَكَّدًا بِأَنَّهُ سَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ﴾. وَأَكَّدَ لَهُمُ الغُفْرَانَ بِوَصْفِ اللهِ تعالى بِأَنَّهُ الغَفُورُ، أَيْ: الكَثِيرُ المَغْفِرَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الغُفْرَانَ مِنْ رَحْمَتِهِ تعالى، وَالرَّحْمَةُ شَأْنُهُ تعالى وَصِفَتُهُ الدَّائِمَةُ.

لِمَاذَا وَعَدَهُمْ أَبُوهُمْ بِالاسْتِغْفَارِ، وَلَمْ يَقُمْ بِهِ حَالًا، كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَيْثُ قَالَ لِإِخْوَتِهِ مُبَاشَرَةً: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾؟

رُبَّمَا وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ مِنْ رَبِّهِ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّ سَيِّدَنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنْتَظِرُ الإِذْنَ مِنَ اللهِ تعالى بِذَلِكَ، أَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ أَمْ لَا؟

وَرُبَّمَا أَجَّل سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الاسْتِغْفَارَ لَهُمْ حَتَّى يَتِمَّ اللِّقَاءُ بِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَتَعَلَّمُ العُقَلَاءُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الابْتِعَادَ عَنِ المَوَاطِنِ التي تُحِيجُ العَبْدَ إلى الاعْتِذَارِ مِنَ الآخَرِينَ، سَوَاءٌ في الدُّنْيَا أَو في الآخِرَةِ، لِأَنَّ الحَقَائِقَ سَوْفَ تَنْجَلِي إِمَّا في الدُّنْيَا وَإِمَّا في الآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.

لِذَلِكَ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مُوصِيًا وَلَدَهُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَلْقَى أَحَدًا هُوَ أَنْصَحَ لَكَ مِنِّي، إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُصَلِّيَ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، ثُمَّ صَلِّ صَلَاةً لَا تَرَى أَنَّكَ تُصَلِّي بَعْدَهَا، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ، فَإِنَّهُ فَقْرٌ حَاضِرٌ، وَعَلَيْكَ بِالْيَأْسِ فَإِنَّهُ الْغِنَى، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ مِنَ الْعَمَلِ وَالْقَوْلِ، وَاعْمَلْ مَا بَدَا لَكَ. رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ.

وروى الحاكم عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي وَأَوْجِزْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكَ بِالْإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ، وَصَلِّ صَلَاتَكَ وَأَنْتَ مُوَدِّعٌ، وَإِيَّاكَ وَمَا تَعْتَذِرُ مِنْهُ».

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حَقَّ الحَيَاءِ مِنْكَ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 16/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 2/ تشرين الثاني / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 1130 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 1130
31-07-2023 991 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 991
08-05-2023 1410 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 1410
19-04-2023 842 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 842
14-04-2023 687 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 687
11-04-2023 811 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 811

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3236
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424910687
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :