734ـ خطبة الجمعة: «إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا»

734ـ خطبة الجمعة: «إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا»

734ـ خطبة الجمعة: «إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا»

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَتْ بِعْثَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَتْحًا جَدِيدًا للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ في عَالَمِ الأَخْلَاقِ وَالقِيَمِ، وَلَقَدْ حَمَلَتِ الأُمَّةُ التي رَبَّاهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَيْنِهِ، كِتَابَ اللهِ تعالى بِيَدٍ، وَنُورَ السُّنَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَهْدَيَهَا الأَخْلَاقِيَّ السَّامِيَ بِاليَدِ الأُخْرَى.

انْطَلَقَتْ تِلْكَ الأُمَّةُ بِسُلُوكِهَا العَمَلِيِّ قَبْلَ كَلَامِهَا وَدَعْوَتِهَا تَنْشُرُ نُورَ الحَقِّ في أَرْجَاءِ المَعْمُورَةِ، وَتُزِيلُ الظُّلَمَ وَالظُّلُمَاتِ بِالأَخلَاقِ التي رُبِّيَتْ عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَخْلَاقِهِ السَّامِيَةِ العَالِيَةِ.

عَظَمَةُ الأَخْلَاقِ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ كَمَالِ العَقْلِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: عَظَمَةُ الأَخْلَاقِ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ كَمَالِ العَقْلِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ رَدِّ اللهِ تعالى عَلَى المُشْرِكِينَ الذينَ اتَّهَمُوا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالجُنُونِ، فَقَالَ تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. كُلَّمَا عَظُمَ العَقْلُ عَظُمَتِ الأَخْلَاقُ، وَعَظَمَةُ الأَخْلَاقِ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَةِ العَقْلِ، لِذَلِكَ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَرْجَحَ النَّاسِ عَقْلًا، وَكَانَ بِذَلِكَ أَعْظَمَ النَّاسِ خُلُقًا.

بِهَذَا الحَبِيبِ الأَعْظَمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمَنَا اللهُ تعالى وَمَنَّ عَلَيْنَا بِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: تَجَلَّتْ أَخْلَاقُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ السَّامِيَةُ العَالِيَةُ مِنْ خِلَالِ رِفْقِهِ وَرَحْمَتِهِ التي جُبِلَ عَلَيْهَا، قَالَ تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

وَمِنْ خِلَالِ كَمَالِ عَقْلِهِ وَعَظَمَةِ أَخْلَاقِهِ وَرَحْمَتِهِ ورِفْقِهِ الْتَزَمَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.

«إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا»:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنَ النَّمَاذِجِ الدَّالَّةِ عَلَى رَجَاحَةِ عَقْلِهِ، وَسَعَةِ أَخْلَاقِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرِفْقِهِ، ما رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدِ اشْتَرَى مِنْهُ بَعِيرًا) فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: «دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ».

وَقَالُوا: لَا نَجِدُ إِلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ (يَعْنِي: بَعِيرًا أَفْضَلَ مِنْ بَعِيرِهِ).

قَالَ: «اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً».

أَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذِهِ الأَخْلَاقِ؟ انْظُرُوا إلى سُمُوِّ الأَخْلَاقِ وَالرَّحْمَةِ في مَوْقِفٍ يُسَاءُ فِيهِ إلى مَقَامِهِ الشَّرِيفِ، فَيَلْتَمِسُ لِمَنْ أَسَاءَ العُذْرَ، وَلَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ، بَلْ قَرَّرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَاعِدَةً أَخْلَاقِيَّةً تُعْلِي مِنْ شَأْنِ صَاحِبِ الحَقِّ، وَتَحْتَرِمُ مَوْقِفَهُ، وَتُؤَيِّدُهُ في جُرْأَتِهِ في المُطَالَبَةِ، فَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا».

ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَلْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُعْطُوا صَاحِبَ الحَقِّ زِيَادَةً عَنْ حَقِّهِ، وَيُقَرِّرُ قَاعِدَةً أَخْلَاقِيَّةً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَلْ رَأَتْ وَسَمِعَتِ البَشَرِيَّةُ أَرْوَعَ وَأَرْفَعَ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ الأَخْلَاقِيَّةِ؟ فَيَا أُمَّةَ هَذَا الحَبِيبِ، أَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذِهِ الأَخْلَاقِ المُحَمَّدِيَّةِ؟

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 27/ ربيع الأول /1442هـ، الموافق: 13/تشرين الثاني / 2020م

 2020-11-13
 3708
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

20-09-2024 8 مشاهدة
927ـ خطبة الجمعة: الأدب معه صلى الله عليه وسلم

مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ وَإِنْصَافٍ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُو جَمِيعَ العُقَلَاءِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ إلى الأَدَبِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ... المزيد

 20-09-2024
 
 8
13-09-2024 450 مشاهدة
926ـ خطبة الجمعة: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم (2)

العَارُ كُلُّ العَارِ أَنْ لَا يَعْرِفَ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ عَرَفَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ لَمْ يَرْتَبْ وَلَمْ يَشُكَّ في صِدْقِهِ وَفي صِدْقِ مَا جَاءَ ... المزيد

 13-09-2024
 
 450
07-09-2024 907 مشاهدة
925ـ خطبة الجمعة: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم (1)

لَقَدْ وَهَبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ البَشَرِيَّةَ حَيَاةَ سَعَادَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ، وَرُوحًا نَاضِرَةً، وَذَلِكَ بِظُهُورِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا ... المزيد

 07-09-2024
 
 907
29-08-2024 456 مشاهدة
924ـ خطبة الجمعة: فقد العلماء مصيبة كبرى

العُلَمَاءُ العَامِلُونَ الرَّبَّانِيُّونَ نُجُومٌ جَعَلَهُمُ اللهُ تعالى هِدَايَةً لِمَنْ أَرَادَ سَلَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، العُلَمَاءُ العَامِلُونَ هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ المَرْضِيُّونَ، أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ مَشْهُودٍ ... المزيد

 29-08-2024
 
 456
23-08-2024 439 مشاهدة
923ـ خطبة الجمعة: أثر الصدق والحكمة بين الراعي والرعية

مَا زَالَ حَدِيثِي يَتَوَجَّهُ إلى كُلِّ رَاعٍ في الأُمَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِسَلَامَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَخَاصَّةً ... المزيد

 23-08-2024
 
 439
15-08-2024 700 مشاهدة
922ـ خطبة الجمعة: أيها الراعي كن مضرب مثل في سلامة الصدر

سَلَامَةُ العَلَاقَةِ بَيْنَ كُلِّ رَاعٍ وَرَعِيَّتِهِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَاسُكِ وَالتَّآلُفِ وَالتَّحَابُبِ وَالتَّعَاوُنِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا بِحُسْنِ أَخْلَاقِ الرِّاعِي مَعَ رَعِيَّتِهِ، مَعَ سَلَامَةِ طَوِيَّتِهِ وَحُبِّهِ ... المزيد

 15-08-2024
 
 700

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5630
المقالات 3190
المكتبة الصوتية 4847
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 417375120
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :