10ـ السيدة آمنة بنت وهب رضي الله عنها وأرضاها (5)
مقدمة الكلمة:
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَقَدَّمَ مَعَنَا في الدَّرْسِ المَاضِي أَنَّ سَيِّدَنَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ بَعْدَ زَوَاجِهِ مِنَ السَّيِّدَةِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا بِأَيَّامٍ خَرَجَ إلى الشَّامِ في عِيرٍ مِنْ عِيرَاتِ قُرَيْشٍ يَحْمِلُونَ تِجَارَاتٍ، فَفَرَغُوا مِنْ تِجَارَاتِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَمَرُّوا بِالمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، وَسَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ يَوْمئِذٍ مَرِيضٌ.
فَقَالَ: أَتَخَلَّفُ عِنْدَ أَخْوَالِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ مَرِيضًا شَهْرًا، وَمَضَى أَصْحَابُهُ فَقَدِمُوا مَكَّةَ، فَسَأَلَهُمْ عَبْدُ المُطَّلِبِ عَنْ عَبْدِ اللهِ، فَقَالُوا: خَلَّفْنَاهُ عِنْدَ أَخْوَالِهِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَهُوَ مَرِيضٌ.
فَبَعَثَ عَبْدُ المُطَّلِبِ أَكْبَرَ أَوْلَادِهِ الحَارِثَ، فَوَجَدَهُ قَدْ تُوُفِّيَ، وَتَمَّ دَفْنُهُ.
السَّيِّدَةُ آمِنَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا بِانْتِظَارِ زَوْجِهَا:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: السَّيِّدَةُ آمِنَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا كَانَتْ تَنْتَظِرُ قُدُومَ القَافِلَةِ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، وَقَامَتْ تَنْتَظِرُ دُخُولَهُ، وَلَكِنَّهُ تَأَخَّرَ، فَأَخَذَتْ تَتَعَلَّلُ، لَعَلَّهُ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ أَوَّلًا، لَعَلَّهُ سَيَأْتِي مَعَ أَبِيهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، لَعَلَّهُ، لَعَلَّهُ ...
حَتَّى سَمِعَتْ دُنُوَّ القَوْمِ مِنْ بَيْتِهَا، فَإِذَا بِعَبْدِ المُطَّلِبِ دُونَ عَبْدِ اللهِ، وَعَلَى الوُجُوهِ غَاشِيَةٌ مِنَ القَلَقِ.
وَكَانَتْ بَرَكَةُ أُمُّ أَيْمَنَ تَمْشِي في أَثَرِهِمْ مُتَخَاذِلَةً مُطْرِقَةً، تُحَاوِلُ أَنْ تُخْفِيَ دَمْعَةً أَفْلَتَتْ مِنْ مُقْلَتَيْهَا.
وَقَالَ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِهَا وَهُوَ يَتَحَاشَى النَّظَرَ إِلَيْهَا:
بَعْضَ الشَّجَاعَةِ يَا آمِنَةُ، فَمَا في الأَمْرِ مَا يَدْعُو إلى مِثْلِ ذَلِكَ الجَزَعِ، عَادَتِ القَافِلَةُ وَكُنَّا في انْتِظَارِهَا في الحَرَمِ، فَلَمَّا افْتَقَدْنَا عَبْدَ اللهِ أَخْبَرَنَا رِفَاقُهُ أَنَّ وَعْكَةً طَارِئَةً أَلَمَّتْ بِهِ وَهُوَ في طَرِيقِهِ إِلَيْنَا، وَعَمَّا قَرِيبٍ يَبْرَأُ وَيَعُودُ سَالِمًا إِلَيْكِ وَإلى مَكَّةَ وَقُرَيْشٍ.
وَانْحَلَّتْ عُقْدَةٌ رَبَطَتْ لِسَانَ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَعَقَّبَ قَائِلًا: هُوَ ذَاكَ يَا آمِنَةُ، وَعْكَةٌ هَيِّنَةٌ، وَلَا شَيْءَ أَكْثَرَ، وَقَدْ قَالَ الرِّفَاقُ: خَلَّفْناهُ بِيَثْرِبَ عِنْدَ أَخْوَالِهِ، فَبَعَثْتُ إِلَيْهِ أَخَاهُ الحَارِثَ، كَيْ يَكُونَ مَعَهُ، وَيَصْحَبَهُ في طَرِيقِهِ إِلَيْنَا، فَثُوبِي إلى صَبْرِكِ، وَادْعِي لَهُ.
قَالَتْ في ضَعْفٍ: أَفْعَلُ يَا عَمِّ.
وَانْصَرَفَتْ مِنْ فَوْرِهَا إلى الابْتِهَالِ وَالدُّعَاءِ، فَلَمْ تَكَدْ تَشْعُرُ بِالقَوْمِ حَوْلَهَا، حَتَّى غَادَرُوهَا إلى الكَعْبَةِ خَاشِعِينَ ضَارِعِينَ.
وَكَانَتْ تُعَاوِدُهَا في لَحَظَاتِ نَوْمِهَا القَصِيرَةِ رُؤْيَا مُلِحَّةٌ، عَنْ جَنِينٍ عَظِيمٍ تَحْمِلُهُ، وَتَسْمَعُ الهَاتِفَ يُبَشِّرُهَا بِأَعْظَمِ بُنُوَّةٍ، فإِذَا آبَتْ إلى يَقَظَتِهَا شَقَّ عَلَيْهَا أَلَّا تَجِدَ عَبْدَ اللهِ بِجَانِبِهَا، تُفضِي إِلَيْهِ بِالذي تَرَى وَتَسْمَعُ.
غَائِبٌ لَا يَرْجِعُ:
وَبَعْدَ حِينٍ عَادَ الحَارِثُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ وَحْدَهُ، عَادَ لِيَنْعَى أَخَاهُ الشَّابَّ، إلى أَبِيهِ الشَّيْخِ، وَزَوْجِهِ العَرُوسِ، وَبَنِي هَاشِمٍ، وَالقُرَشِيِّينَ جَمِيعًا.
لَقَدْ غَالَهُ المَوْتُ وَهُوَ بَيْنَ أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، عَلَى أَثَرِ رَحِيلِ القَافِلَةِ التي تَخَلَّفَ عَنْهَا.
وَدُفِنَ هُنَاكَ ـ قَبْلَ وُصُولِ أَخِيهِ عَلَى أَرْجَحِ الأَقْوَالِ ـ وَلَمْ يُقْبَلْ في هَذِهِ المَرّةِ أَيُّ فِدَاءٍ.
وَوَجَمَتْ آمِنَةُ للخَبَرِ، وَقَسَتْ عَيْنَاهَا، فَمَا تُسْعِفَانِهَا بِبُكَاءٍ.
وَأَعْفَاهَا ذُهُولُهَا مِنَ الانْهِيَارِ وَالتَّصَدُّعِ، فَلَبِثَتْ أَيَّامًا لَا تَكَادُ تُصَدِّقُ النَّعْيَ، حَتَّى إِذَا تَيَقَّنَتْ مِنَ الكَارِثَةِ فَاضَتْ عَبَرَاتُهَا، وَيُرْوَى لَهَا في رِثَائِهِ:
عَفَا جَانِبُ البَطْحَاءِ مِنْ زَيْنِ هَاشِمٍ *** وَجَـاوَرَ لَـحْـدًا خَـارِجًا في الغَمَاغِمِ
دَعَـتْـهُ الـمَـنَايَا دَعْـوَةً فَـأَجَـابَـهَـا *** وَمَا تَرَكَتْ في النَّاسِ مِثْلَ ابْنِ هَـاشِمِ
عَـشِـيَّـةَ رَاحُــوا يَـحْمِلُونَ سَرِيرَهُ *** تَـعَـاوَرَهُ أَصْــحَابُهُ في الـتَّــزَاحُــمِ
فَإِنْ يَـكُ غَـالَـتْـهُ الـمَـنُونُ وَرِيـبُهَا *** فَقَدْ كَانَ مِعْطَاءً كَثِيرَ الـتَّـرَاحُـــــمِ
ثُمَّ أَمْسَكَتْ لَا تَزِيدُ.
وَوَجَدَ عَلَيْهِ عَبْدُ المُطَّلِبِ وَإِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ وَجْدًا شَدِيدًا.
وَلَبِسَتْ مَكَّةُ كُلُّهَا ثَوْبَ الحِدَادِ عَلَى الشَّابِّ الذي غَالَتْهُ المَنُونُ غَرِيبًا، وَلَمَّا يُنْزَعْ عَنْهُ ثَوْبُ العُرْسِ، وَصَحِلَتْ مِنَ النُّوَاحِ عَلَيْهِ حُلُوقٌ بُحَّتْ مِنَ الهُتَافِ لَهُ حِينَ احْتَفَلَتْ بِفِدَائِهِ مُنْذُ شَهْرَيْنِ وَأَيَّامٍ.
كَانَ في رَيْعَانِ شَبَابِهِ حِينَ غَالَهُ المَوْتُ إِثْرَ فَرْحَةِ الفِدَاءِ.
وَتَرَمَّلَتِ العَرُوسُ الشَّابَّةُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَدْ يَتَبَادَرُ إلى الذِّهْنِ السُّؤَالُ الآتِي: لِمَاذَا كَتَبَ اللهُ تعالى المَوْتَ عَلَى سَيِّدِنَا عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ هَكَذَا سَرِيعًا؟ وَلِمَاذَا كَانَ الفِدَاءُ؟
لَعَلَّنَا نُتَابِعُ هَذَا في دَرْسِنَا القادِمِ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الخميس: 29/ جمادى الآخرة /1442هـ، الموافق: 11/ شباط / 2021م
ارسل إلى صديق |
اخْتَارَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى السَّيِّدَةَ الكَرِيمَةَ لِتَكُونَ زَوْجَةً لِأَعْظَمِ البَشَرِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اخْتَارَ لَهَا الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ مِنْ أَكْرَمِ ... المزيد
وَالجَوَابُ في رَأْيِي هُوَ أَنَّ هَذِهِ سَيِّدَةٌ اخْتَارَهَا اللهُ تعالى لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَرْحَلَةٍ دَقِيقَةٍ، اخْتَارَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَلَى عِلْمٍ وَهُوَ العَلِيمُ ... المزيد
إِنَّ حَيَاةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ تَارِيخٌ مُشَرِّفٌ وُمُشْرِقٌ لِسَيِّدَةٍ طَاهِرَةٍ شَرِيفَةٍ فَاضِلَةٍ، أَكْرَمَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاخْتَارَهَا زَوْجًا لِهَذَا النَّبِيِّ الكَرِيمِ وَالرَّسُولِ العَظِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ ... المزيد
إِنَّهَا أُمُّ المُؤْمِنِينَ الأُولَى، وَزَوْجُ الحَبِيبِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُولَى، وَالمُسْلِمَةُ الأُولَى، وَالصِّدِّيقَةُ الأُولَى، وَالحَبِيبَةُ الأُولَى، وَالمُجَاهِدَةُ الأُولَى، ... المزيد
كَانَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا أَوَّلَ المُجَاهِدَاتِ، وَأَوَّلَ المُسْلِمَاتِ، وَأَوَّلَ المُصَلِّيَاتِ، وَأَوَّلَ الصَّابِرَاتِ، وَأَوَّلَ البَاذِلَاتِ، كَمَا جَعَلَ اللهُ تعالى ابْنَتَهَا السَّيِّدَةَ ... المزيد
السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا خَيْرُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَا أَبْدَلَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا مِنْهَا بَعْدَ وَفَاتِهَا، هِيَ أَصْلُ ... المزيد