774ـ خطبة الجمعة: تعلموا خلق الوفاء من صاحب الذكرى

774ـ خطبة الجمعة: تعلموا خلق الوفاء من صاحب الذكرى

774ـ خطبة الجمعة: تعلموا خلق الوفاء من صاحب الذكرى

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: مَعَ حُلُولِ العَام الهِجْرِيِّ الجَدِيدِ، تَمْضِي بِنَا الذِّكرَيَاتُ إلى الوَرَاءِ شَيْئًا مَا، مُخْتَرِقَةً حَوَاجِزَ الزَّمَانِ، لِتَقَفِ بِنَا عَلَى مَشَارِفِ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، وَهِيَ تَشْهَدُ هِجْرَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، تِلْكَ الهِجْرَةُ التي حَوَّلَتْ وَغَيَّرَتْ مَسَارَ التَّارِيخِ وَفَاجَأَتِ العَالَمَ بِأَحْدَاثِهَا الضَّخْمَةِ، وَنَتَائِجِهَا المُدْهِشَةِ، فَقَدْ كَانَتْ سَبَبًا لِعِزَّةِ المُسْلِمِينَ.

تَعَلَّمُوا خُلُقَ الوَفَاءِ مِنْ صَاحِبِ الذِّكْرَى:

يَا عِبَادَ اللهِ: نَعِيشُ جَمِيعًا ذِكْرَى الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَتَعَالَوْا بِنَا لِنَتَعَلَّمَ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ العَصْمَاءِ، الذي عَلَّمَ البَشَرِيَّةَ كَيْفَ يَكُونُ خُلُقُ الوَفَاءِ.

حِينَ عَزَمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الهِجْرَةِ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تعالى، أَمَرَ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ أَنْ يَنَامَ في فِرَاشِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَأَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ أَيَّامًا حَتَّى يُؤَدِّيَ الأَمَانَاتِ التي كَانَتْ عِنْدَهُ لِأَصْحَابِهَا مِنْ أَعْدَائِهِ كَامِلَةً غَيْرَ مَنْقُوصَةٍ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ فَنَمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ» كذا في البداية والنهاية.

يَا عِبَادَ اللهِ: في إِيدَاعِ المُشْرِكِينَ وَدَائِعَهُمْ عِنْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ مُحَارَبَتِهِمْ لَهُ، وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى قَتْلِهِ، دَلِيلٌ بَاهِرٌ عَلَى تَنَاقُضِهِمُ العَجِيبِ الذي كَانُوا وَاقِعِينَ فِيهِ، ففي الوَقْتِ الذي كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ سَاحِرٌ أَو مَجْنُونٌ أَو كَذَّابٌ، لَمْ يَكُونُوا يَجِدُونَ فِيمَنْ حَوْلَهُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ أَمَانَةً وَصِدْقًا، فَكَانُوا لَا يَضَعُونَ حَوَائِجَهُمْ، وَلَا أَمْوَالَهُمُ التي يَخَافُونَ عَلَيْهَا إِلَّا عِنْدَهُ.

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُفْرَانَهُمْ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ الشَّكِّ لَدَيْهِمْ في صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا بِسَبَبِ تَكَبُّرِهِمْ وَاسْتِعْلَائِهِمْ عَلَى الحَقِّ الذي جَاءَ بِهِ، وَخَوْفًا عَلَى زَعَامَتِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، وَصَدَقَ اللهُ العَظِيمُ القَائِلُ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: في أَمْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ بِتَأْدِيَةِ الأَمَانَاتِ لِأَصْحَابِهَا في مَكَّةَ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذِهِ الظُّرُوفِ الشَّدِيدَةِ التي كَانَ مِنَ المَفْرُوضِ أَنْ يَكْتَنِفَهَا الاضْطِرَابُ، بِحَيْثُ لَا يَتَّجِهُ التَّفَكُّرُ إِلَّا إلى خُطَّةِ السَّلَامَةِ في الهِجْرَةِ؛ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ لِيَنْسَى أَو يَنْشَغِلَ عَنْ رَدِّ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا، حَتَّى وَلَو كَانَ في أَصْعَبِ الظُّرُوفِ التي تُنْسِي الإِنْسَانَ نَفْسَهُ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ.

فَأَبَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخُونَ مَنِ ائْتَمَنَهُ، وَلَو كَانَ عَدُوًّا حَرِيصًا عَلَى قَتْلِهِ، لِأَنَّ الخِيَانَةَ صِفَةُ المُنَافِقِينَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ تَحْتَفِلُونَ بِذِكْرَى الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، هَلْ تَلْتَزِمُونَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾؟ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحَافِظُ عَلَى الأَمَانَاتِ التي يَسْتَوْدِعُهَا النَّاسُ عِنْدَهُ.

هَلْ نَسِيتُمْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾؟

وَهَلْ نَسِيتُمْ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»؟ رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَهَلْ تَذْكُرُونَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ»؟ رواه الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

لَقَدْ كَانَ صَاحِبُ الذِّكْرَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمِينًا عَلَى أَمْوَالِ الأُمَّةِ فَضْلًا عَنْ أَعْرَاضِهَا؛ وَأَمَّا حَالُنَا اليَوْمَ: فَقَدْ ضَاعَتْ فِيهِ الأَمَانَةُ أَمَانَةُ الأَمْوَالِ، بَلْ ضَاعَتِ الأَمَانَةُ عَلَى الأَعْرَاضِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَعُدْ إلى رُشْدِنَا وَصَوَابِنَا، وَاللهِ سَنَمُوتُ وَاللهِ سَنَمُوتُ وَاللهِ سَنَمُوتُ، وَبَعْدَ المَوْتِ سَوْفَ نُسْأَلُ.

اللَّهُمَّ لَا تُسَوِّدْ وُجُوهَنَا يَوْمَ العَرْضِ عَلَيْكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 27/ ذو الحجة /1442هـ، الموافق: 6/آب / 2021م

 2021-08-06
 2357
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

01-06-2023 378 مشاهدة
872ـ خطبة الجمعة: سلامة الصدر مطلب شرعي

أَقُولُ لِنَفْسِي، وَلِكُلِّ مَنْ أَرَادَ حُسْنَ الخَاتِمَةِ: يَا مُرِيدَ حُسْنِ الخَاتِمَةِ، كُنْ حَرِيصًا عَلَى سَلَامَةِ صَدْرِكَ وَطَهَارَةِ قَلْبِكَ مِنَ الغِلِّ وَالحِقْدِ وَالحَسَدِ وَالبَغْضَاءِ، وَتَذَكَّرْ صِفَةَ الرِّجَالِ الأَطْهَارِ ... المزيد

 01-06-2023
 
 378
25-05-2023 839 مشاهدة
871ـ خطبة الجمعة: صفاء السريرة سبب لحسن الخاتمة

حُسْنُ الخَاتِمَةِ أَقْصَى مَا يَتَمَنَّاهُ العَبْدُ المُؤْمِنُ، لِأَنَّ الأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا، فَمَنْ أُكْرِمَ بِحُسْنِ الخَاتِمَةِ لَا يَضُرُّهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَنْ حُرِمَ حُسْنَ الخَاتِمَةِ لَنْ يَنْفَعَهُ شَيْءٌ وَلَو ... المزيد

 25-05-2023
 
 839
18-05-2023 1134 مشاهدة
870ـ خطبة الجمعة: حسن السيرة سبب لحسن الخاتمة

مَنْ مِنَّا لَا يَتَمَنَّى حُسْنَ الخَاتِمَةِ؟ وَكُلُّنَا يَعْلَمُ أَنَّ الأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا، يَقُولُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ ... المزيد

 18-05-2023
 
 1134
11-05-2023 1646 مشاهدة
869ـ خطبة الجمعة: لنا موعد لن نخلفه أبدًا

هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا مَهْمَا طَالَتْ فَهِيَ قَصِيرَةٌ، وَأَنَّ لَنَا مَوْعِدًا لَنْ نُخْلَفَهُ أَبَدًا؟ أَلَمْ يَخْطُرْ في بَالِنَا يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ أَنْ نَذْهَبَ في زِيَارَةٍ قَصِيرَةٍ إلى تِلْكَ الدُّورِ التي ... المزيد

 11-05-2023
 
 1646
04-05-2023 1845 مشاهدة
868ـ خطبة الجمعة: أسباب حسن الخاتمة وعلاماتها

إِنَّ شَرَّ مَا بُلِيَتْ بِهِ النُّفُوسُ الغَفْلَةُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾. وَبِسَبَبِ الغَفْلَةِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَرَّطَ ... المزيد

 04-05-2023
 
 1845
28-04-2023 2144 مشاهدة
867ـ خطبة الجمعة: يا عبد الله لا تكن من الغافلين

الحَيَاةُ الدُّنْيَا دَارُ لَهْوٍ وَلَعِبٍ، وَدَارُ اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ، وَدَارُ مَمَرٍّ لَا مَقَرٍّ، وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ ... المزيد

 28-04-2023
 
 2144

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5593
المقالات 3079
المكتبة الصوتية 4571
الكتب والمؤلفات 19
الزوار 410664467
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2023 
برمجة وتطوير :