3ـ معجزة القرآن الكريم

3ـ معجزة القرآن الكريم

3ـ معجزة القرآن الكريم

 

كُلُّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ تعالى إلى قَوْمِهِ، أَيَّدَهُ بِمُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ، وَكُلُّ مُعْجِزَةٍ أَجْرَاهَا اللهُ تعالى عَلَى يَدِ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ كَانَتْ تُنَاسِبُ عَصْرَهُ وَقَوْمَهُ.

وَلَمَّا كَانَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ في زَمَانِ الفُصَحَاءِ وَالبُلَغَاءِ الشُّعَرَاءِ، أَتَاهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَاتَّهَمَهُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ اخْتَلَقَهُ وَافْتَرَاهُ مِنْ عِنْدِهِ فَتَحَدَّاهُمْ وَدَعَاهُمْ أَنْ يُعَارِضُوهُ وَيَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَلِيَسْتَعِينُوا بِمَنْ شَاؤُوا، فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾.

وَكَمَا قَالَ اللهُ تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ﴾.

ثُمَّ تَنَازَلَ مَعَهُمْ إلى عَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ، فَقَالَ في سُورَةِ هُودٍ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾.

ثُمَّ تَنَازَلَ إلى سُورَةٍ فَقَالَ في سُورَةِ يُونُسَ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾.

وَكَذَلِكَ في سُورَةِ البَقَرَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ أَعَادَ التَّحَدِّيَ بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ تعالى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ أَبَدًا لَا في الحَالِ وَلَا في المَآلِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾.

فَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ المُعْجِزَةُ الخَالِدَةُ الكُبْرَى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تعالى مُتَحَدِّيًا الجَمِيعَ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾.

وَهَكَذَا وَقَعَ، فَإِنَّهُ مِنْ لَدُنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وإلى زَمَانِنَا هَذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِنَظِيرِهِ وَلَا نَظِيرِ سُورَةٍ مِنْهُ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ أَبَدًا، فَإِنَّهُ كَلَامُ رَبِّ العَالَمِينَ الذي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لَا في ذَاتِهِ وَلَا في صِفَاتِهِ وَلَا في أَفْعَالِهِ، فَأَنَّى يُشْبِهُ كَلَامُ المَخْلُوقِينَ كَلَامَ الخَالِقِ؟

وَقَدِ انْطَوَى كِتَابُ اللهِ العَزِيزِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الإِعْجَازِ:

ذَلِكَ أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ مُعْجِزٌ في بِنَائِهِ التَّعْبِيرِيِّ وَتَنْسِيقِهِ الفَنِّيِّ بِاسْتِقَامَتِهِ عَلَى خَصَائِصَ وَاحِدَةٍ في مُسْتَوًى وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَفَاوَتُ وَلَا تَتَخَلَّفُ خَصَائِصُهُ.

مُعْجِزٌ في بِنَائِهِ الفِكْرِيِّ وَتَنَاسُقِ أَجْزَائِهِ وَتَكَامُلِهَا، فَلَا فَلْتَةَ فِيهِ وَلَا مُصَادَفَةَ، كُلُّ تَوْجِيهَاتِهِ وَتَشْرِيعَاتِهِ، تَلْتَقِي وَتَتَنَاسَبُ وَتَتَكَامَلُ وَتُحِيطُ بِالحَيَاةِ البَشَرِيَّةِ وَتَسْتَوْعِبُهَا وَتُلَبِّيهَا وَتَدْفَعُهَا دُونَ أَنْ تَتَعَارَضَ جُزْئِيَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ ذَلِكَ المِنْهَاجِ الشَّامِلِ الضَّخْمِ مَعَ جُزْئِيَّةٍ أُخْرَى، وَدُونَ أَنْ تَصْطَدِمَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِالفِطْرَةِ الإِنْسَانِيَّةِ أَو تَقْـصُرَ عَنْ تَلْبِيَتِهَا، وَكُلُّهَا مَشْدُودَةٌ إلى مِحْوَرٍ وَإِلَى عُرْوَةٍ وَاحِدَةٍ في اتِّسَاقٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَفْطُنَ إِلَيْهِ خِبْرَةُ الإِنْسَانِ المَحْدُودَةُ.

مُعْجِزٌ في يُسْرِ مَدَاخِلِهِ إلى القُلُوبِ وَالنُّفُوسِ وَلَمْسِ مَفَاتِيحِهَا وَفَتْحِ مَغَالِيقِهَا واستِثَارَةِ مَوَاضِعِ التَّأَثُّرِ وَالاسْتِجَابَةِ فِيهَا.

مُعْجِزٌ كَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الغُيُوبِ المَاضِيَةِ وَالمُسْتَقْبَلِيَّةِ، وَالتي لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا إِلَّا اللهُ تعالى، فَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْلَمُ عَنْ قَصَصِ الأَنْبِيَاءِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ بِالتَّفْصِيلِ، فَعَلَّمَهُ اللهُ تعالى إِيَّاهَا مِنْ خِلَالِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، كَمَا في قِصَّةِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

كَمَا أَعْلَمَهُ اللهُ تعالى عَنْ أُمُورٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ سَتَكُونُ، وَأَعْلَمَهُ مَا سَيَكُونُ في اليَوْمِ الآخِرِ، مِنْ خِلَالِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

فَالقُرْآنُ العَظِيمُ كَانَ المُعْجِزَةَ الكُبْرَى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّى بِهِ فُصَحَاءَ العَرَبِ وَبُلَغَاءَهُمْ.

لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِ قُرَيْشٍ تَجَاهُلُ هَذَا التَّحَدِّي بِحَالٍ، حَاوَلُوا عَبَثًا، وَبَاؤُوا بِالفَشَلِ، مِمَّا دَفَعَهُمْ إلى تَرْكِ المُحَاجَّةِ بِاللِّسَانِ، وَالانْتِقَالِ إلى مُقَاوَمَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِعُنْفٍ وَشَرَاسَةٍ.

نَعَمْ لَقَدْ عَجَزُوا عَنِ الإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ، كَسُورَةِ الكَوْثَرِ التي تَتَكَوَّنُ مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَتَتَشَكَّلُ مِنْ عَشْرِ كَلِمَاتٍ فَقَط لَا غَيْرَ، وَمِنْ حُرُوفِهِمُ الهِجَائِيَّةِ، وَبِاللُّغَةِ التي يَفْهَمُونَهَا، وَيُعْظِمُونَ شَأْنَهَا، وَيُجِلُّونَ مَكَانَتَهَا، وَيَعُونَ خَبَايَاهَا، وَيُعَلِّقُونَ رَوَائِعَهَا في جَوْفِ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ.

لَقَدْ تَآمَرُوا عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَرَادُوا تَكْذِيبَهُ، وَأَحْكَمُوا الخُطَّةَ لِقَتْلِهِ، وَتَعِبُوا في مُوَاجَهَتِهِ، مَعَ أَنَّهُ يَكْفِيهِمُ الإِتْيَانُ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ، وَلَو فَعَلُوا ـ وَلَنْ يَفْعَلُوا ـ لَكُفُوا مَعَهَا الإِسْلَامَ إلى الأَبَدِ، وَلَكِنْ أَنَّى لَهُمْ ذَلِكَ؟ ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 26/شعبان /1442هـ، الموافق: 9/ نيسان / 2021م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  معجزات ودلائل نبوة خاتم الأنبياء والمرسلين

22-12-2023 178 مشاهدة
21ـ لترين الظعينة ترتحل من الحيرة

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ... المزيد

 22-12-2023
 
 178
08-09-2023 334 مشاهدة
20ـ الشاة المسمومة

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَلَامَتُهُ مِنَ السُّمِّ المُهْلِكِ لِغَيْرِهِ، وَإِعْلَامُ اللهِ تعالى لَهُ أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ، ... المزيد

 08-09-2023
 
 334
07-08-2023 258 مشاهدة
19ـ إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ... المزيد

 07-08-2023
 
 258
28-07-2023 459 مشاهدة
18ـ ناولني الذراع

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ كَانَ فِي مَجْلِسِ ... المزيد

 28-07-2023
 
 459
27-10-2022 363 مشاهدة
17ـ انكشاف الضمائر النفسية له صلى الله عليه وسلم

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةُ انْكِشَافِ الضَّمَائِرِ النَّفْسِيَّةِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. ... المزيد

 27-10-2022
 
 363
05-08-2022 299 مشاهدة
16ـ معجزة كلام الشجر وانقياده

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةُ كَلَامِ الشَّجَرِ وَانْقِيَادِهِ. مَا مِنْ شَيْءٍ في الوُجُودِ إِلَّا وَيَشْهَدُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 05-08-2022
 
 299

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3152
المكتبة الصوتية 4740
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411763349
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :