25ـ «أَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ»

25ـ «أَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ»

25ـ «أَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ»

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ،

مَا رَوَاهُ الحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَايِشَ نَخْلٍ، فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَنَّ إِلَيْهِ، وَزَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذَفَرَتَهُ فَسَكَنَ؛ فَقَالَ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟».

قَالَ: فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ: «أَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا لِي أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ».

مَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:

أَوَّلًا: الحَيَوَانَاتُ أُمَمٌ شَتَّى وَأَجْنَاسٌ مٌخْتَلِفَةٌ، تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَتَتَنَاسَلُ، وَتَصِحُّ وَتَمْرَضُ، تَنْمُو وَتَهْرُمُ، وَتَجُوعُ وَتَتْعَبُ، تَمُوتُ وَتُبْعَثُ وَتُحْشَرُ، وَيَقْتَصُّ اللهُ تعالى لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾.

ثَانِيًا: هَذِهِ الحَيَوَانَاتُ لَهَا حَظُّهَا في سُكْنَى الأَرْضِ وَالتَّنَقُّلِ فِيهَا وَالتَّمَتُّعِ بِخَيْرَاتِهَا مِنْ مَاءٍ وَمَرْعَى، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ﴾.

إِذًا لِلْحَيَوَانِ حَقُّ التَّمَتُّعِ في الأَرْضِ وَسُكْنَاهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّضْيِيقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ حِرْمَانُهُ مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى في أَرْضِهِ.

ثَالِثًا: هَذِهِ الحَيَوَانَاتُ تُسَبِّحُ اللهَ وَتَسْجُدُ لَهُ كَسَائِرِ المَخْلُوقَاتِ مِنْ إِنْسٍ وَجَانٍّ وَنَبَاتٍ وَجَمَادٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾.

رَابِعًا: هَذِهِ الحَيَوَانَاتُ فِيمَا يَبْدُو لَنَا أَنَّهَا عَجْمَاءُ وَلَا تَتَكَلَّمُ، وَلَكِنَّهَا في الحَقِيقَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُخَاطِبُ بَعْضَهَا بَعْضًا، وَقَدْ تُخَاطِبُ غَيْرَهَا، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ يُطْلِعُ أَحَدَ خَلْقِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَصَلَ مَعَ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ النَّمْلِ، قَالَ تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.

وَكَذَلِكَ تَكَلَّمَ الهُدْهُدُ مَعَ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ وَكَلَّفَهُ سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ بِمُهِمَّةٍ كَبِيرَةٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾.

وَقَالَ تعالى حِكَايَةً عَنْ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾.

وَهَذَا الجَمَلُ تَكَلَّمَ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

خَامِسًا: هَذِهِ الحَيَوَانَاتُ جَعَلَ اللهُ تعالى فِيهَا عِظَةً وَعِبْرَةً للنَّاسِ حَتَّى يَتَفَكَّرُوا وَيَتَدَبَّرُوا في عَظِيمِ خَلْقِ اللهِ تعالى، وَفي عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لِيَزْدَادَ بِذَلِكَ إِيمَانُهُمْ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا﴾. قَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ﴾.

سَادِسًا: هَذِهِ الحَيَوَانَاتُ أَعْطَاهَا اللهُ تعالى قُدْرَةَ رُؤْيَةِ مَا لَا يَرَاهُ الإِنْسَانُ، وَسَمَاعِ مَا لَا يَسْمَعُ الإِنْسَانُ، لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا اللهُ تعالى وَهُوَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ يَعْلَمُهَا، فَبَعْضُ الحَيَوَانَاتِ تَرَى المَلَائِكَةَ، وَبَعْضُهَا يَرَى الشَّيَاطِينَ، بَلْ إِنَّهَا لَتَسْمَعُ أَصْوَاتَ المُعَذَّبِينَ في قُبُورِهِمْ، بَلْ قَبْلَ هَذَا وَبَعْدَهُ تُشْفِقُ الحَيَوَانَاتُ وَتَخَافُ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ لِعِلْمِهَا أَنَّ القِيَامَةَ لَا تَقُومُ إِلَّا يَوْمَ الجُمُعَةِ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا».

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَوْتَى لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْبَهَائِمَ لَتَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ».

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَلَا تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا تَفْزَعُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، إِلَّا هَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَكَانِ، يَكْتُبَانِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَدَنَةً، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَقَرَةً، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ شَاةً، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ طَائِرًا، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَيْضَةً، فَإِذَا قَعَدَ الْإِمَامُ، طُوِيَتْ الصُّحُفُ».

سَابِعًا: هَذِهِ الحَيَوَانَاتُ قَدْ تَكُونُ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَفْضَلَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ البَشَرِ، مِمَّنْ عَطَلُوا عُقُولَهُمْ وَاتَّبَعُوا شَهَوَاتِهِمْ، وَلَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا مَا خُلِقُوا مِنْ أَجْلِهِ، فَهَبَطُوا مَعَ كُلِّ أَسَفٍ إلى مُسْتَوًى مُتَدَنٍّ مِنَ الحَيَوَانَاتِ، قَالَ تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ، فَقَالَ لَهُمْ: «ارْكَبُوهَا سَالِمَةً، وَدَعُوهَا سَالِمَةً، وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ، وَالْأَسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وَأَكْثَرُ ذِكْرًا للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ».

ثَامِنًا: هَذِهِ الحَيَوَانَاتُ وَالبَهَائِمُ تَغَارُ عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ رُبَّمَا أَكْثَرَ مِنْ بَعْضِ البَشَرِ الَّذِينَ نَزَلُوا إلى مُسْتَوًى مُتَدَنٍّ مِنَ البَهِيمِيَّةِ وَالحَيَوَانِيَّةِ، فَأَصْبَحَتْ حَيَاتُهُمْ أَكْلًا وَشُرْبًا وَلَهْوًا وَلَعِبًا وَاتِّبَاعًا للشَّهَوَاتِ، وَانْغِمَاسًا في الرَّذَائِلِ، فَكَانَتْ نَتِيجَتُهُمْ نَارَ جَهَنَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.

خُذُوا عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ الهُدْهُدَ الَّذِي أَخْبَرَنَا عَنْهُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، هَذَا الهُدْهُدُ طَائِرٌ صَغِيرٌ مِنْ جُنُودِ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ مَعَ الهُدْهُدِ: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾.

لَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الهُدْهُدُ عَلَى هَؤُلَاءِ القَوْمِ الَّذِينَ اسْتَعْبَدَتْهُمُ امْرَأَةٌ، ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ فَهَلْ يُعْقَلُ هَذَا الأَمْرُ؟ بَلْ وَالأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الهُدْهُدَ اسْتَنْكَرَ عَلَى هَؤُلَاءِ القَوْمِ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِغَيْرِ اللهِ تعالى، وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا السُّجُودَ لِغَيْرِ اللهِ تعالى مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ الذي صَدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ الاسْتِقَامَةِ.

فَأَيْنَ مِنَّا مَنْ يَغَارُ عَلَى دِينِهِ؟ وَأَيْنَ مِنَّا مَنْ يُنْكِرُ المُنْكَرَ مِنَ العُقَلَاءِ؟

تَاسِعًا: نَعَمْ، لَقَدْ أَوْجَبَ شَرْعُنَا الحَنِيفُ عَلَيْنَا حُقُوقًا تُجَاهَ هَذِهِ الحَيَوَانَاتِ، وَقَدْ يَسْتَغْرِبُ أَحَدُنَا هَذِهِ الحُقُوقَ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ تعالى عَلَيْنَا تُجَاهَ الحَيَوَانَاتِ في زَمَنٍ أُهْدِرَتْ فِيهِ حُقُوقُ الإِنْسَانِ، وَأُهِينَتْ فِيهِ كَرَامَةُ الإِنْسَانِ، بَلْ وَأُرِيقَتْ فِيهِ دِمَاءُ هَذَا الإِنْسَانِ بِشَكْلٍ عَامِّ، وَدِمَاءُ المُسْلِمِينَ بِشَكْلٍ خَاصٍّ، لَقَدْ أُزْهِقَتِ أَرْوَاحٌ، وَأُبِيدَتْ أُمَمٌ، وَدُمِّرَتْ حَضَارَاتٌ، وَرُمِّلَتْ نِسَاءٌ، وَشُرِّدَ أَطْفَالٌ، وَهُدِّمَتْ بُيُوتٌ فَوْقَ رُؤُوسِ أَصْحَابِهَا، كُلُّ ذَلِكَ مَعَ الأَسَفِ تَحْتَ عُنْوَانِ، حِمَايَةِ حُقُوقِ الإِنْسَانِ، وَرِعَايَةِ حُقُوقِ الإِنْسَانِ، وَصِيَانَةِ رُوحِهِ وَدَمِهِ وَعِرْضِهِ، هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الشِّعَارَاتِ عَلَى مَنْ يَضْحَكُونَ؟

نَعَمْ في زَمَنِ الشِّعَارَاتِ البَرَّاقَةِ أَصْبَحَ المُسْلِمُ يُلَاحَقُ في كُلِّ مَكَانٍ، وَأَصْبَحَ يُنَازَعُ حَتَّى في اللُّقْمَةِ الَّتِي يَضَعُهَا في فَمِهِ وَفَمِ أَطْفَالِهِ.

شَرْعُنَا الحَنِيفُ حَفِظَ حُقُوقَ الحَيَوَانَاتِ وَالبَهَائِمِ، فَضْلًا عَنْ حُقُوقِ الإِنْسَانِ، وَلْيَخْرَسْ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَابُ مُنَظَّمَاتِ حُقُوقِ الإِنْسَانِ، خُذُوا عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ».

في شَرْعِنَا الحَنِيفِ دَمُ الحَيَوَانِ مُصَانٌ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللهُ ذَبْحَهُ لِأَكْلِهِ، أَو قَتْلَهُ لِأَذِيَّتِهِ، كَمَا حَرَّمَ تَعْذِيبَهُ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا، وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا ـ أي هَدَفاً يَرْمِي عَلَيْهِ ـ .

وَحَرَّمَ كَذَلِكَ حَبْسَ الحَيَوَانِ وَالتَّضْيِيقَ عَلَيْهِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا».

وَحَرَّمَ إِرْهَاقَ الحَيَوَانِ في العَمَلِ، وَمَنْ أَرْهَقَهُ في العَمَلِ سَوْفَ يُحَاسَبُ عَلَى ذَلِكَ، رَوَى الحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَايِشَ نَخْلٍ، فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَنَّ إِلَيْهِ، وَزَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذَفَرَتَهُ فَسَكَنَ؛ فَقَالَ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟».

قَالَ: فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ: «أَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا لِي أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ».

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 20/ جمادى الأولى /1446هـ، الموافق: 22/ تشرين الثاني / 2023م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  معجزات ودلائل نبوة خاتم الأنبياء والمرسلين

14-09-2024 376 مشاهدة
24ـ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا

أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: أَللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا ... المزيد

 14-09-2024
 
 376
23-08-2024 194 مشاهدة
23ـ «هَلُمَّهُ، فَإِنَّ اللهَ سَيَجْعَلُ فِيهِ الْبَرَكَةَ»

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ ... المزيد

 23-08-2024
 
 194
26-07-2024 232 مشاهدة
22ـ أينا أسرع بك لحوقًا

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِخْبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِحْدَى نِسَائِهِ أَنَّهَا ... المزيد

 26-07-2024
 
 232
22-12-2023 755 مشاهدة
21ـ لترين الظعينة ترتحل من الحيرة

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ... المزيد

 22-12-2023
 
 755
08-09-2023 1046 مشاهدة
20ـ الشاة المسمومة

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَلَامَتُهُ مِنَ السُّمِّ المُهْلِكِ لِغَيْرِهِ، وَإِعْلَامُ اللهِ تعالى لَهُ أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ، ... المزيد

 08-09-2023
 
 1046
07-08-2023 531 مشاهدة
19ـ إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده

مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ... المزيد

 07-08-2023
 
 531

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5632
المقالات 3201
المكتبة الصوتية 4873
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 420053566
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :