764ـ خطبة الجمعة: كونوا عونًا للأبناء على البر

764ـ خطبة الجمعة: كونوا عونًا للأبناء على البر

764ـ خطبة الجمعة: كونوا عونًا للأبناء على البر

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ تَفَشَّتْ في هَذَا العَصْرِ ظَاهِرَةُ العُقُوقِ، وَهِيَ المُؤْذِنَةُ بِتَفَكُّكِ المُجْتَمَعِ، وَتَقْطِيعِ رَوَابِطِهِ، كَمَا أَنَّهَا جَالِبَةٌ لِسَخَطِ اللهِ تعالى وَعِقَابِهِ.

ظَاهِرَةُ العُقُوقِ صَارَتْ أَمْرًا لَافِتًا للنَّظَرِ، لَا بُدَّ مِنَ الوُقُوفِ عِنْدَهُ، وَالعَمَلِ عَلَى عِلَاجِهِ، مَعَ أَنَّهُ مِنَ المَنْطِقِيِّ وَالوَاقِعِيِّ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ مَحَبَّةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الوَالِدَيْنِ وَأَبْنَائِهِمْ، لِأَنَّ الوَالِدَيْنِ غَالِبًا مَا يَكُونَانِ هُمْ أَكْثَرَ مَنْ أَحْسَنَ إلى الأَوْلَادِ، وَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، فَلِمَاذَا يَعُقُّ الأَبْنَاءُ وَالبَنَاتُ وَالِدَيْهِمْ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَصْبَحْنَا في زَمَنٍ لَا يَعْرِفُ الوَاحِدُ مِنَّا إِلَّا الحَقَّ الذي لَهُ، وَيَنْسَى بَلْ وَيَتَنَاسَى الوَاجِبَ الذي عَلَيْهِ، الكُلُّ يَلُومُ الكُلَّ عَلَى التَّقْصِيرِ في حَقِّهِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِاللَّوْمِ مِنْهُ؛ الكَثِيرُ مِنَ الآبَاءِ يَشْكُونَ مِنْ عُقُوقِ أَبْنَائِهِمْ، وَالقِلِيلُ مِنَ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ مَنْ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، هَلْ كَانَ هُوَ السَّبَبَ في عُقُوقِهِمْ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: الأَبْنَاءُ أَمَانَةٌ عِنْدَ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَقُلُوبُهُمُ ابْتِدَاءً قُلُوبٌ طَاهِرَةٌ، وجَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ، قَابِلَةٌ لِكُلِّ مَا نُقِشَ فِيهَا، فَإِنْ عُوِّدُوا عَلَى الخَيْرِ وَنَشَؤُوا عَلَيْهِ، سَعِدُوا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَشَارَكَهُمْ في ثَوَابِهِ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ، وَكُلُّ مُعَلِّمٍ وَمُؤَدِّبٍ؛ وَإِنْ عُوِّدُوا عَلَى الشَّرِّ وَنَشَؤُوا عَلَيْهِ كَانَ الوِزْرُ عَلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَمَنْ عَوَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.

كُونُوا عَوْنًا للأَبْنَاءِ عَلَى البِرِّ:

يَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا عَوْنًا لِأَبْنَائِكُمْ عَلَى البِرِّ وَالإِحْسَانِ إِلَيْكُمْ، وَاسْمَعُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي يَقُولُ فِيهِ: «رَحِمَ اللهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ» رواه ابن أبي شيبة عَنِ الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

احْذَرُوا أَيُّهَا الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ:

أولًا: مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى أَوْلَادِكُمْ، لَا تَدْعُوا عَلَيْهِمْ في سَاعَةِ الغَضَبِ، فَلَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِفَسَادِهِ وَوَبَالًا عَلَيْهِ؛ لَقَدْ حَذَّرَكُمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ» رواه الإمام مسلم وأبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

جَاءَ رَجُلٌ إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ المُبَارَكِ يَشْكُو إِلَيْهِ بَعْضَ وَلَدِهِ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ دَعَوْتَ عَلَيْهِ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: أَنْتَ الذي أَفْسَدْتَهُ.

ثانيًا: احْذَرُوا مِنَ الجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَخَاصَّةً في العَطِيَّةِ، لِأَنَّهُ مَنْ أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ، وَحَرَمَ الآخَرَ أَفْسَدَهُ، وَوَقَعَ في مُخَالَفَةِ أَمْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي العَطِيَّةِ» رواه الإمام البخاري.

إِذَا أَعْطَيْتَ لِبَعْضِ أَبْنَائِكَ شَيْئًا أَعْطِ الآخَرَ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَ الأَوَّلَ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، وَلَا تَزْرَعْ في قَلْبِ مَنْ حَرَمْتَهُ مِنَ العَطِيَّةِ عُقُوقَكَ، وَلَا تَزْرَعْ فِيهِ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَاذْكُرِ القَاعِدَةَ التي تَقُولُ: العُقُوقُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الحُقُوقِ.

لَا تُبَرِّرْ عَدَمَ المُسَاوَاةِ في العَطِيَّةِ بِأَنَّ هَذَا بَارٌّ، وَهَذَا عَاقٌّ، فَالعَاقُّ مَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةُ المَرِيضِ الذي يَحْتَاجُ إلى عِلَاجٍ، فَحِرْمَانُكَ لَهُ يَزِيدُهُ عُقُوقًا، وَيَكُونُ سَبَبًا في قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَهَذَا كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، فَلَا تَكُنْ سَبَبًا في زِيَادَةِ عُقُوقِهِ.

ثالثًا: احْذَرُوا مِنْ عَدَمِ إِعْطَاءِ الوَلَدِ حَقَّهُ في جُهْدِهِ، فَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ، وَأَعْطُوا السَّائِلَ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» رواه ابن زنجويه عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَكَيْفَ بِوَلَدِكَ؟ كَمْ مِنْ أَبٍ اسْتَغَلَّ جُهْدَ وَلَدِهِ، فَثَمَّرَ مَالَهُ مِنْ جُهْدِ الوَلَدِ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ، وَرُبَّمَا اسْتَغَلَّ فَتْرَةَ شَبَابِهِ، وَهَذَا الفِعْلُ يُورِثُ في النَّفْسِ الضَّغِينَةَ، وَرُبَّمَا يُوقِعُهُ في العُقُوقِ، ثُمَّ يُوقِعُهُ في قَطِيعَةِ الرَّحِمِ.

اجْعَلُوا أَبْنَاءَكُمْ شُرَكَاءَ لَكُمْ في أَعْمَالِكُمْ إِنْ كَانُوا يَعْمَلُونَ عِنْدَكُمْ، وَلَا تَسْتَغِلُّوا جُهْدَهُمْ، وَإِلَّا كُنْتُمْ سَبَبًا في عُقُوقِهِمْ لَكُمْ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: قَبْلَ أَنْ يُفَكِّرَ الأَبَوَانِ في حَقِّهِمَا عَلَى الوَلَدِ، يَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ يُفَكِّرَا بِالوَاجِبِ الذي عَلَيْهِمَا نَحْوَ الوَلَدِ، قُمْ أَيُّهَا الأَبُ، أَيَّتُهَا الأُمُّ، بِالوَاجِبِ الذي عَلَيْكُمَا نَحْوَ الوَلَدِ، قَبْلَ أَنْ تُطَالِبُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالحَقِّ الذي لَكُمْ «رَحِمَ اللهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ»

كُونُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى بِرِّكُمْ، وَلَا تَكُونُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى عُقُوقِكُمْ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 23/ شوال /1442هـ، الموافق: 4/حزيران / 2021م

 2021-06-05
 7294
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

28-11-2024 2988 مشاهدة
932ـ خطبة الجمعة: مهمتنا أيام الكرب والغمة

أَحْوَالٌ عَصِيبَةٌ، وَظُرُوفٌ رَهِيبَةٌ تُحِيطُ بِأَهْلِ بِلَادِ الشَّامِ في هَذِهِ الأَيَّامِ، نَرَى صُوَرًا مُحْزِنَةً، أُمَّةٌ في مَجْمُوعِهَا كَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، أُمَّةٌ قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ... المزيد

 28-11-2024
 
 2988
22-11-2024 1060 مشاهدة
931ـ خطبة الجمعة: الدافع إلى محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

الإنْسَانُ السَّوِيُّ مَجْبُولٌ وَمَفْطُورٌ مِنْ أَصْلِ خَلْقِهِ عَلَى الحُبِّ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إِنْسَانٍ سَوِيٍّ عَاقِلٍ بِدُونِ حُبٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الحُبُّ مُدَنَّسًا أَمْ مُقَدَّسًا، فَالمُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ... المزيد

 22-11-2024
 
 1060
14-11-2024 1225 مشاهدة
930ـ خطبة الجمعة: غرس الله تعالى محبته صلى الله عليه وسلم في الجمادات وغيرها

لَقَدْ عَظَّمَ اللهُ نَبِيَّنَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَكْرَمَهُ، وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ، وَأَعْطَاهُ مِنَ المِيزَاتِ وَالخَصَائِصِ مَا لَمْ يُعْطِهِ لِأَحَدٍ مِنَ البَشَرِ ... المزيد

 14-11-2024
 
 1225
04-10-2024 4779 مشاهدة
929ـ خطبة الجمعة: الأدب مع الله قلبًا ولسانًا وأركانًا

إِنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الأَدَبِ الأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى، بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ أَدَبٍ، وَالأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى هُوَ حُسْنُ الانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مَعَ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالحَيَاءِ مِنْهُ تَبَارَكَ وتعالى. ... المزيد

 04-10-2024
 
 4779
27-09-2024 2805 مشاهدة
928ـ خطبة الجمعة: الآداب المطلوبة من كل مسلم

لَقَدْ جَاءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةٍ مِنْ عِنْدِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى لِخَلْقِهِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَتَأَدَّبُ مَعَ حَبِيبِهِ ... المزيد

 27-09-2024
 
 2805
20-09-2024 1990 مشاهدة
927ـ خطبة الجمعة: الأدب معه صلى الله عليه وسلم

مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ وَإِنْصَافٍ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُو جَمِيعَ العُقَلَاءِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ إلى الأَدَبِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ... المزيد

 20-09-2024
 
 1990

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5637
المقالات 3202
المكتبة الصوتية 4873
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 420756480
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :