23ـ غزوة بدر، وجندي البركة (2)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ قِصَّةَ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ فِرْعَوْنِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَقَائِدِ المُشْرِكِينَ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ أَبْرَزِ فُرْسَانِ المُشْرِكِينَ، وَأَكْثَرُ المُشْرِكِينَ جُرْأَةً عَلَى المُسْلِمِينَ وَأَمْنَعِهِمْ، كَانَ مُحَاطًا بِفِرْقَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ قَوِيَّةٍ لِحِمَايَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ قُتِلَ بِطَرِيقَةٍ عَجِيبَةٍ، فَلَو قَتَلَهُ فَارِسٌ مُحْتَرِفٌ مِنْ فُرْسَانِ المُسْلِمِينَ، مِثْلُ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ، أَو عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَو طَلْحَةِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، لَكَانَ هَذَا أَمْرًا مَفْهُومًا عِنْدَنَا، لَكِنَّ قَتْلَهُ تَمَّ بِطَرِيقَةٍ عَظِيمَةٍ عَجِيبَةٍ، وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا تَفْسِيرٌ وَاحِدٌ، هُوَ جُنْدِيُّ البَرَكَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تعالى بَارَكَ في فِعْلٍ ضَعِيفٍ، لِيُحَقِّقَ نَتِيجَةً هَائِلَةً قَوِيَّةً.
قَتْلُ فِرْعَوْنِ هَذِهِ الأُمَّةِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَسْمَعْ كَيْفَ قُتِلَ عَدُوُّ اللهِ، وَفِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلْنَرَ مِنْ خِلَالِ ذَلِكَ جُنْدِيَّ البَرَكَةِ، الذي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تعالى.
رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا (يَعْنِي: لَو كُنْتُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقْوَى مِنْهُمَا) فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟
قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا.
قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ، فَقَالَ: مِثْلَهَا، قَالَ: فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَزُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ.
قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟».
فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُ.
فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟».
قَالَا: لَا.
فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ»، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ.
وفي رِوَايَةٍ للإِمَامِ البُخَارِيِّ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ التَفَتُّ فَإِذَا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِّ، فَكَأَنِّي لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا (يَعْنِي: خَشِيتُ أَنْ يَنَالَنِيَ العَدُوُّ مِنْ جِهَتِهِمَا فَلَا يَسْتَطِيعَانِ حِمَايَتِي، لِأَنَّهُمَا صَغِيرَانِ) إِذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ: يَا عَمِّ أَرِنِي أَبَا جَهْلٍ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟
قَالَ: عَاهَدْتُ اللهَ إِنْ رَأَيْتُهُ أَنْ أَقْتُلَهُ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُ.
فَقَالَ لِي الآخَرُ سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلَهُ، قَالَ: فَمَا سَرَّنِي أَنِّي بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَكَانَهُمَا، فَأَشَرْتُ لَهُمَا إِلَيْهِ، فَشَدَّا عَلَيْهِ مِثْلَ الصَّقْرَيْنِ حَتَّى ضَرَبَاهُ، وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ.
وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى للإِمَامِ البُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟».
فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ: أَأَنْتَ، أَبُو جَهْلٍ؟
قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ.
يَعْنِي أَخَذَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِلِحْيَةِ أَبِي جَهْلٍ مُتَشَفِّيًا مِنْهُ بِالقَوْلِ وَالفِعْلِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِيهِ بِمَكَّةَ أَشَدَّ الإِيذَاءِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ (أَيْ: لَا عَارَ عَلَيَّ في قَتْلِكُمْ إِيَّايَ).
وفي رِوَايَةٍ في سِيرِةِ ابْنِ هِشَامٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ لِي ـ يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ ـ: لَقَدْ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ.
قَالَ: ثمَّ احْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللهِ أَبِي جَهْلٍ.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: آللهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ.
قَالَ: وَكَانَتْ يَمِينَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: قُلْتُ نَعَمْ، وَاللهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ، ثُمَّ أَلْقَيْتُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ فَحَمِدَ اللهَ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا أَقُولُ: هَلْ أَبْنَاؤُنَا كَذَلِكَ؟ هَلْ نَحْنُ كَذَلِكَ؟ أَيْنَ الغَيْرَةُ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ بِاللهِ عَلَيْكُمُ أَسْمُعُوا أَبْنَاءَكُمْ حَدِيثَ ابْنَيْ عَفْرَاءَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا كَمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأحد: 23/ رمضان /1443هـ، الموافق: 24/نيسان / 2022م
يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد
فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد
غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد
مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد
يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد
الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد