849ـ خطبة الجمعة: لا تغتر بالباطل
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: قَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تعالى أَنَّ ذَوِي العِصْيَانِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ يُطِيعُ الرَّحْمَنَ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾. قَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾. قَالَ تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾.
فَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، لَا يَفْقَهُونَ، إِلَّا مَنْ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ المَعَاصِي هُمُ الكَثْرَةُ الغَالِبَةُ، فَلَا يَكُنْ هَذَا سَبَبًا في صَدِّكُمْ عَنِ التَّمَسُّكِ بِدِينِكُمْ، انْظُرُوا إلى الحَقِّ، وَلَا تَنْظُرُوا إلى الكَثْرَةِ، فَلَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى سَيِّدَنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ أُمَّةٌ وَحْدَهُ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: كَثْرَةُ الانْحِرَافِ تَدْعُو المُؤْمِنَ الحَقَّ لِزِيَادَةِ التَّمَسُّكِ بِدِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَدْعُوهُ لِشُكْرِ اللهِ تعالى الذي اصْطَفَاهُ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ للهِدَايَةِ، فَهُوَ لَا يَغْتَرُّ بِالبَاطِلِ لِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ مِنْ أَهْلِ البَاطِلِ، وَلَا يَسْتَوْحِشُ مِنَ طَرِيْقِ الحَقِّ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ فِيهِ، فَيَحْمَدُ اللهَ تعالى عَلَى عِنَايَتِهِ بِهِ، وَحِفْظِهِ لَهُ.
﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾:
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ وَدَّعَتِ الأُمَّةُ عَامًا كَامِلًا، وَقَلَّدَ فِيهِ التَّابِعُونَ المَتْبُوعِينَ، وَقَلَّدَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ قَالَ اللهُ تعالى في حَقِّهِمْ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾. قَلَّدُوا مَنْ قَالَ اللهُ تعالى في حَقِّهِمْ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: حَصَلَ الذي حَصَلَ، وَوَقَعَ في المَعَاصِي وَالمُخَالَفَاتِ مَنْ وَقَعَ، رَغْمَ البَلَاءِ الذي يَعُمُّنَا، وَلَكِنْ هَلْ مِنَّا مَنْ يُفَكِّرُ في الصُّلْحِ مَعَ اللهِ تعالى قَبْلَ مَوْتِهِ؟
وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، نَحْنُ سَائِرُونَ إلى ذَاكَ اليَوْمِ الذي يُقَالُ فِيهِ: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾. وَالذي يُقَالُ فِيهِ: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾. وَيُقَالُ فِيهِ: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾.
فَمِنْ أَيِّ الفَرِيقَيْنِ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُنَا؟
رَأَى الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ؟
قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً.
قَالَ: فَأَنْتَ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً تَسِيرُ إِلَى رَبِّكَ تُوشِكُ أَنْ تَبْلُغَ.
فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ: تَعْلَمُ مَا تَقُولُ؟
قَالَ الرَّجُلُ: قُلْتُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قَالَ الْفُضَيْلُ: تَعْلَمُ مَا تَفْسِيرُهُ؟
قَالَ الرَّجُلُ: فَسِّرْهُ لَنَا يَا أَبَا عَلِيٍّ.
قَالَ: قَوْلُكَ: إِنَّا للهِ، تَقُولُ: أَنَا للهِ عَبْدٌ، وَأَنَا إِلَى اللهِ رَاجِعٌ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَمَنْ عَلِمَ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَسْؤُولٌ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ فَلْيُعِدَّ للسُّؤَالَ جَوَابًا.
فَقَالَ الرَّجُلُ: فَمَا الْحِيلَةُ؟
قَالَ: يَسِيرَةٌ.
قَالَ: مَا هِيَ؟
قَالَ: تُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ يُغْفَرُ لَكَ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ، فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ. /حلية الأولياء.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرْزُقَنَا حُسْنَ الاصْطِلَاحِ مَعَهُ تَبَارَكَ وتعالى. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 13/ جمادى الآخرة /1444هـ، الموافق: 6/ كانون الثاني / 2023م
ارسل إلى صديق |
في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ يَتَجَدَّدُ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ حُبُّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي هُوَ أَصْلُ شَرَفِنَا وَمَصْدَرُ فَخْرِنَا وَعِزِّنَا في هَذَا العَالَمِ. نَعَمْ، ... المزيد
يَا مَنْ أَكْرَمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِالانْتِمَاءِ لِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَجَعَلَ هُوِيَّتَنَا الإِسْلَامَ وَالإِيمَانَ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، يَا مَنْ أَكْرَمَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فَجَعَلَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ ... المزيد
فَقْدُ الهُوِيَّةِ وَضَيَاعُهَا هِيَ مَأْسَاتُنَا في هَذِهِ الآوِنَةِ، لَقَدْ أَضَاعَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ هُوِيَّتَهُمُ التي مَيَّزَهُمُ اللهُ تعالى بِهَا، وَشَرَّفَهُمْ بِهَا، فَقَدُوهَا شَكْلًا وَمَضْمُونًا، لَقَدْ ضَيَّعَ بَعْضُهُمْ شَرَفَ ... المزيد
هَلْ خَطَرَ عَلَى بَالِ أَحَدِنَا أَنْ يَتَسَاءَلَ مَعَ نَفْسِهِ: مَنْ أَنَا؟ وَمَا هُوِيَّتِي؟ قَدْ يَسْتَغْرِبُ الجَمِيعُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ، لِأَنَّ الجَوَابَ يَأْتِي مُبَاشَرَةً: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، أَنَا المُهَنْدِسُ، أَنَا الطَّبِيبُ، ... المزيد
نَحْنُ في أَيَّامِ فِتَنٍ وَمِحَنٍ وَعَقَبَاتٍ كَبِيرَةٍ، وَمَشَقَّاتٍ صَعْبَةٍ، تَعْصِفُ بِالأُمَّةِ عَصْفًا، فَالمُؤْمِنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صُلْبًا في إِيمَانِهِ دَائِمًا وَأَبَدًا، وَيَسْتَحْضِرَ سَاعَةَ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ ... المزيد
الخُسْرَانُ كُلُّ الخُسْرَانِ أَنْ تَكُونَ صِلَةُ العَبْدِ بِرَبِّهِ هَزِيلَةً وَمُتَقَلِّبَةً، إِنْ رَأَى خَيْرًا اطْمَأَنَّ، وَإِلَّا أَعْرَضَ وَاعْتَرَضَ، قَالَ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ... المزيد